طْحَنْ مـُّــو
جريدة طنجة – محمد العطلاتي ( قضية محسن فكري القتيل )
“طْحَنْ مـُّــو”أتذكر فتْرة أواسط الثمانينات من القرن الفائت، و كان ذلك في عز مرحلة سُمِّيت لاحقاً سنوات الرّصاص، أن الحسن الثاني، في إحْدى خُطبِه المشهورة، تحدث بنبرة سياسية ماكرة مُدافعا عن حقه في إلقاء الخطب، بل إنه لم يكْتَف بالدفاع عن هذا “الحق الدستوري الوحيد”، واعتبره أيضا الوسيلة الوحيدة التي تمكنه من إسماع صوته و تبليغ مواقفه، حيال مُخْتَلِف القضايا ، إلى شعبه الذي اعتاد وصفه بالعزيز.
في ذلك الزمن، كانت ” الخُطَبُ الحَسَنيَّة ” مُحصَّنة أمام أي مُجادلة أو نقاش، سواء بين السياسيين، داخل مُؤسسات الحُكْم، أو في أوْساط الجماهير، و استمر الوضع بهذه الصورة إلى وقت إعلان الحسن الثاني أن البلد مهددٌ بأزمة قلبية قد تودي به إلى ما لا تحمد عقباه، و إعْلانِه، بُعَيْد ذلك، تنصيبَ المناضل الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي رئيسا للسلطة التنفيذية، تنصيبٌ رافقه تفاؤلٌ مشوبٌ في أوساط النُّخب الوطنية و اليسارية، و عُقدت عليه آمالُ قطاع واسع من الجمهور، آمالٌ تعزَّزت بصورة أوْضح مع الخِطاب المُؤسِّس لـ”نظرية” المفْهوم الجَديد للسُّلْطة التي أعلنها محمد السادس في بداية ولايته.
مع تولي محمد السادس عرش المغرب، أخذت “الخطابات” سِمَةً مُخالِفةً لما مضى، من جهة الشكل كما من جهة المحتوى، و علَّق النّاسُ عليها، تبعاً لذلك، أحْلاما قدْ تُنقِذُ بلدَهم من سطْوة المارد الجبّار الذي يقْبعُ فوق صدورهم منْذُ أجْيال، لقد حمَلت مضامينُ الخطاب رنَّةً قويةً أراد منْها التَّأسيسَ لفَلْسفة مُتقدِّمة تَنْظُر للسُّلطة كأداةٍ تخْضعُ لقاعدة التَّطْوير و البِناء، لكن سرعان ما انطفأ توهُّجُ الخطاب المُنير في ظُلُمات الفساد الإداري، ولمْ تجِدْ هذه الفلسفة التَّنويرية طريقَها نحو الانْتقال من وضْع التَّجْريد إلى مُستوى التَّنفيذ الفِعلي في دواليب الدَّولة، و هكذا بقيت الإدارة، وهي الوسيلة الرئيسة لتنفيذ سياسات الدولة، عاجزةً عن الفعل، وفيَّةً لنهْج البيروقراطية و التقاعس المُتطاول، بل إنها “طبَّعت” مع واقع الفساد و اتَّخذته لنفْسها وجهاً من وُجوه مغْرب ما قبْل “العهد الجديد”.
الآن، بعد مرور أكثر من عقد على خطاب “المفهوم الجديد للسلطة”، هل كان من باب اللزوم أن ننتظر كل هذا الوقت المديد لينتبه الملك إلى مدى خطورة الوضع الذي أصبحت الإدارة المغربية تُعانيه ؟ و هل كان الجميع راضيا عن عمل الإدارة ؟ و في الوقت عينه، هل هم في حاجة إلى تنبيه مَلَكي، عبْر خطاب افتتاح البرلُمان، يُذكِّرُهم بوظائفِ الإدارة و بما ينْبغي أن تلعبه من أدوار ؟
لقد كشف الخطاب الملكي، بتفصيل غير مسبوق، مساوئ الإدارة المغربية و أورامها غير الحميدة، و كيف اعتبرها، بتركيبتها و بِنْيتِها الراهنة، ثِقْلاً يمْنعُ صَبيبَ الحَيويّة و الإبْداع من النَّفاذ إلى دواليبِها، و يَمْنحُها قَبولا لدى مُرتفقيها يُؤهّلها لتتحوّل من مُجرّد أداة مُقيّدَة بوَظائفَ روتينية مُملَّة إلى أخْرى باسْتِطاعتها الاضْطلاع بأدْوار التّنمية و المُواكبة و حماية الحُقوق العامّة و التَّطبيق السّليم لروحِ القوانين.
لقد صُدِمَ الشّعب المغربي، من أقْصاهُ إلى أدْناهُ، بِحادث مَصْرع المواطن “مُحْسن فِكْري”، و ذُهِل الجميع من هوْل المأْساة و فًصولها الدراميّة. و بصرْف الاهْتِمام عنِ التّفاصيل الحقيقيّة للحادث و عن الأكاذيب التي يُحْتملُ أن تكون قد لُفِّقت خلال الانتشار الواسع للخبر على مواقع التواصل الاجتماعي، و اعتبارا للتحقيق الذي شرعت فيه الجهات القضائية ذات الاختصاص، فإن الثّابِتَ من وقائع القضية يُشيرُ لصِحّة خبر واحد هو خبر مقتل المواطن “محسن”، لكن الثابت أيضا، من الوقائع ذاتها، ذلك الانتشار السريع لخَبَرٍ تُجْهل صحته من عدمها هو قولهم “طحن مُّــو !”.
لقد تعلمنا من الوقائع المجتمعية أن فقراتها لا تكون على الدوام ملائمة للمتخيل البشري، و لذلك عادة ما يتدخل الإنسان مضيفا بعض التقاسيم لتصبح الصورة كما يشتهي، لكنها، رغم التبديل “الاضطراري”، تبقى حافظةً للحقيقة الفعلية. هناك من ينفي صدور عبارة “طحن مو” الكلام و هناك من يؤكد ثبوت روايتها، و في الحالتين معا فإن العبارة تمثل بالنسبة للوعي الجماعي دليلا رمزيا على التضاد القائم بين سلطة يديرها مسؤولون غير أكفاء و بين مواطن أتخمته الممارسات الغبية لبعض الأعوان العموميين.
لقد أضحت القطيعة بين فترة ما قبل مصرع محسن و ما بعدها مطلبا مصيريا، من شأن تبنيه أن يعيد للإدارة المغربية بعض الثقة، ومن شأن تجاوزه أن يوقع أ.ركان الدولة في الحضيض تحت شعار طحن ـ مّو..