العناية بالبيئة والمحافظة عليها
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( المحافظة على البيئة في الإسلام )
الأربعاء 30 نوفمبر 2015 – 09:45:40
إنَّ الحديث عن البيئة وضرورة العنـاية بها والحفاظ عليها هو موضوع أصيل مكين في ديننا وشريعتنا ، وما تواجهه البشرية اليوم من مشكلات وكوارث بيئية إن دل على شيء ، فإنما يدل على غياب الوعي والحس البيئي الإسلامي وتجاهلنا للبعد الإسلامي الذي يجب أن يحكم سلوكياتنا وتصرفاتنا تجاه بيئتنا.
وإن من دلائل القرآن الكريم على الاهتمام بالبيئة والعناية بها أن أي قارئ أو متصفح له يجد سورا تحمل أسماء الظواهر والمخلوقات السماوية كـ( الرعد والقمر والشمس والنجم والبروج ) ، ومكونات الزمن كـ( الليلِ و الفجر والضحى) ، وبعض الحيوانات ك( البقرة والأنعام والنحلِ والنمل والعنكبوت والفيل) ، هذا فضلا عما يرد في الآيات القرأنية من حديث مطول عن الجبال و البحار والأنهار والأشجار وأنواعها وغير ذلك من العناصر البيئية التي خلقها اللهُ ، فهذه التسميات للسور القرآنية لها دلالاتها وإيحاؤها في نفس الإنسان المسلم ، وربطه بالبيئة من حوله ، بحيث لا يكون في عزلة أو غفلة عنها .
وقد اهتمت السنة النبوية المطهرة بالبيئة وعناصرها ، فقد وردت الكثير من الأحاديث النبوية التي تلفت نظر المسلم إلى الاهتمام بأمر البيئة كغرس الأشجار والزرع وحمايتها ، وعدم قطعها لغير مصلحة عامة ، وقد ربط الغرس والزرع بالأجر من الله والصدقة الجارية ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة » ، وقد حثّ النبيّ الكريم على أن يظل الإنسان المسلم يغرس غرسه لتجميل البيئة وتحسينها ونشر الظل حتَّى لو قامت الساعة ، قال عليه السلام « إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتَّى يغرسها فليغرسها» ، وكان عليه الصلاة والسلام قدوة في الاقتصاد وعدم الإسراف وخاصة في الماء ، لأنه سبب الحياة ، مصداقا لقوله تعالى ( وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) ، وقد نهى الشرع الحكيم عن الإسراف في الماء مهما كثر، وإن كان لعبادة ، ولو على نهر جار، طلبا لاستدامته ، وحفظا لحق الأجيال القادمة فيه ، فعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ : مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ) ، ومن الوسائل التي حرص عليها الإسلام في حفظ البيئة : العناية بالنّظافة ، والحقيقة أنّ موقف الإسلام من النّظافة موقف لا نظير له في أيِّ دين من الأديان ، فالنّظافة فيه عبادة وقُربة ، بل فريضة من فرائضه.
فقد أشاد القرآن والسنّة بالنّظافة وأهلها ، فقال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ وأثــنى على أهل مسجد قبــاء فقال: ( لمسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) ، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الطّهور شطر الإيمان « أي نصفه. ومن ذلك شاعت بين المسلمين هذه الحكمة التي ينطق بها خاصَّتهم وعامّتهم ولا يعرف لها مثيل عند غيرهم: وهي (النّظافة من الإيمان). ولم تقتصر عناية الإسلام بالنظافة على نظافة الجسد فحسب بل اتسعت الدائرة لتشمل نظافة البيوت والطرقات ؛ فالنفس تنشرح للمكان النظيف وتنقبض لمنظر القذارة ، ولذلك حث الرسول صلى الله عليه وسلم على نظافة البيوت فقال: « إنّ الله جميل يحبّ الجمال ، طيب يحب الطيّب ، نظيف يحبّ النّظافة ، فنظّفوا أفنيتكم ولا تتشبهوا باليهود« ، فنظافة البيت مستحبة طبعا وشرعا ؛ لأن الإسلام دين طيب يدعو إلى النظافة ، وتوعّد كل من ألقى في الطريق أذى أو قذراً فقال عليه السلام : « من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم« ، كما جعل صلى الله عليه وسلم تنظيف الشوارع من القاذورات وإماطة الأذى عنها مما يحصل به الثواب ، فعن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عُرِضت عليَّ أعمالُ أمتي: حسَنُها وسيِّئُها ، فوجدتُ في محاسن أعمالها الأذى يُماط عن الطريق ، ووجدتُ في مساوئ أعمالِها النُّخاعة تكون في المسجد لا تُدفَنُ) . وإماطة الأذى كلمة جامعة لكل ما فيه إيذاء الناس ممن يستعملون الشوارع والطرقات ، والمراد بالأذى : كل ما يؤذي المار كالحجر والشّوكة والعظم والنّجاسة والقذر ونحو ذلك .
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن البصاق في الأرض ، لما له من مضار صحية ونفسية ، تخالف الذوق ، وتثير الاشمئزاز، وهو ما يفعله بعض الناس اليوم بتساهل -مع الأسف- ، وكذلك النهي عن قضاء الحاجة في الطِريق ، وظل الناس النافع()، وتحت الشجر المثمر، والتبول في المياه الراكدة والجارية وغيرِ ذلك من أماكن تجمع الناس وعلى الطرقات أو مواطن انتفاعهم حماية للبيئة ، وحفظا للطهارة والصحة ، وكلها وصايا في حماية البيئة؛ وفي هذا السياق قال عليه السلام أيضا « لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ » ، وذلك لِما يتسبب فيه هذا الصنيع من تلوّث المياه وعفونتها ، وشدّدَ عليه السلام النكير على ك لمن تصرف تصرفا أو سلك سلوكا حَرَمَ بسببه الماء من صفائه ، وطهارته ونقائه ، فعن معاذ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَةَ ؛ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَالظِّلِّ ) ، والمراد بالموارد موارد المياه ، ففي هذه المواضع يكون البراز أكثر تلويثا للبيئة إذا هي مواقع حركة من شأنها أن تزيده انتشارا ، فورد النهي عنها منعاً للتلوّث.
وهكذا يتبين أن تشريعات الإسلام تشمل كل مصالح الناس في شئون حياتهم الدنيوية ومن ذلك الاعتناء بالبيئة والمحافظة عليها والتحذير من الإفساد في الأرض ، لما فيها من السلامة للأجساد ، والصون للأرض عن الفساد ، مصداقا لقوله تعالى: ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) …