المنظومة التعليمية في المغرب …. منظومة السيد والعبد…للطبقات العليا المدارس الخاصة الراقية وللطبقات الدنيا المدارس العمومية صوبًا على الفشل..
جريدة طنجة – لمياء السلاوي ( المنظومة التعليمية في المغرب )
الثلاثاء 27 شتنبر 2016 – 16:40:25
الواقع أنه بعد ستين سنة من “الإستقلال”، بتدافعاتها وارتجاجاتها، والإحترابات الظاهرة والمبطنة التي طاولتها وواكبتها، لم يوفق المغرب في استنبات منظومة في التربية والتعليم متكاملة الأضلع، متناسقة الصيرورة، مؤسسة في فلسفتها على مرجعية محددة، مبنية على تصور، خاضعة لعمليات في التقييم بأفق الإصلاح والتقويم.
إنه لم يوفق إلا في إعادة إنتاج الأمية والجهل في أعلى مراتبهما، ولم يوفق إلا في إفراز الفشل المدرسي بكل أشكاله وتفرعاته، ولم يوفق إلا في الدفع بالآلاف إلى سوق في البطالة واسع موسع، فأضحى بالتالي وكأنه ماكينة حقيقية لتفريخ الجهلة والعطلة والفاشلين، حتى باتت المنظومة برمتها معطوبة، مهترئة، غير قادرة على ضبط مسارها، منخورة بسرطان من نوع خاص، تتكاثر بصلبها الخلايا دونما موجه أو ناظم أو ضابط للإيقاع.
التعليم كان منذ البدء، ولستة عقود متتالية، أداة حكامة سياسية واجتماعية فريدة، تم توظيفها من لدن الدولة بكل مستوياتها، بغرض خلق تراتبية إجتماعية تعيد إنتاج السائد المهيمن، دونما أن يطاول ذلك طبيعة نمط الحكم والسلطة، أو يطعن في نسقيته، أو يفرز من بين ظهرانيه وعيا، قد يكون من شأنه إذا لم يكن تقويض ذات النمط، فعلى الأقل المزايدة على مرجعيته الأحادية، وفلسفته في الفعل الفرداني المطلق.
وعلى هذا الأساس، فإن إعادة استنبات الأمية، وهي معضلة هينة المعالجة، وعولجت بمناطق من العالم بمدد زمنية محصورة، إنما اعتمدت كمنظومة قارة بالمغرب، مؤداها أنه كلما كانت الجماهير أمية وجاهلة، وهي الجائعة المريضة والمسلوبة الحقوق، فإنه سيسهل درء مخاطرها، وضبط رد فعلها بالزمن والمكان، لا بل حصر مجال فعل لها آت لا محالة، إن تسنى لمنسوب الوعي لديها أن يرتفع، أو ازدادت الحاجة من بين ظهرانيها للمعرفة والاطلاع.
بذات الإعتبار، يمكن القول إنه حتى لو قاربت نسبة التمدرس 100% كما يتفاخر بذلك بعض المسؤولين، فإن آفة الأمية ستبقى ملازمة (على الأقل حتى الباكالوريا) لأكثر من 78% من أطفال وشباب، يكتبون ويقرؤون، لكنهم لا يدركون، ولا يفقهون إلا بحدود ما أريد لهم أن يدركوا أو يفقهوا.
إننا نقولها علنا وجهارة: طالما بقيت الأمية منظومة حكم وحكامة، فلا سبيل للتخفيض من مستواها، أو التخفيف من نسبة العاهة التي تمثلها لنا في الحاضر والمستقبل، بل ستتزايد حجما ومستوى.
إن المغرب الرسمي لم يفشل من باب ذاك الذي حاول ولم يحالفه النجاح، بل إن كل المؤشرات تدل على أنه كان منذ البدء يرتب للفشل جملة وبالتفصيل، لا بل خلق لذات الفشل الإطار والسياق، وبنى له بالتشريعات والنصوص.
فالمغرب لم يخضع منظومته في التربية والتعليم للنقاش العام الواسع، بل تركها حكرا على جهة واحدة، تقرر فيها لوحدها وفق أهوائها، تفرضها من الفوق، وتعين لها أدوات التنفيذ، دونما استشارة أو قبول بالرأي الآخر، حتى إذا استشارت جهة ما أو جهات، أملاه ذلك عليها سياق التسويغ والتبرير، لا سياق المشورة والأخذ بالرأي المخالف.
إن المغرب لم يضع التعليم يوما ضمن رهاناته الكبرى، بل تركه (بعدما حدد الخطوط الحمر) لعتاة في التدبير إستنزفوا موارده الضخمة، وخصخصوا لفائدتهم ولفائدة لوبيات تدور بفلكهم جوانب كبرى من القطاع، حتى باتت المنظومة برمتها مكمن بيع وشراء خالص، بالمدارس الخصوصية، بالكتب المدرسية وبالمناهج المتجاوزة على حق الفرد في التعلم والمعرفة.
بهذه النقطة، نحن مستعدون للقول إن الذي جرى من ستين سنة مضت، إنما كان المراد منه إعادة إنتاج منظومة في الحكم، لا تختلف كثيرا في جوهرها عن منظومة السيد والعبد، للطبقات العليا المدارس الخاصة الراقية بالداخل ثم بالخارج، وللطبقات الدنيا المدارس العمومية المحلية صوبا على الفشل..
إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسر العزم الجامح بجهة تدمير المدرسة العمومية (هي المقدسة بفضاءات أخرى، ومكمن المواطنة والمساواة بامتياز) بتقدم المدارس الخاصة التي تشجع، وتعفى من الضرائب، ويدفع بالطلب لأن يتزايد عليها؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما معنى أن يدفع الآلاف من العوائل (العاملة بقطاع التعليم العمومي) بأبنائهم للقطاع الخاص؟ كما لو أن لسان حالهم يقول: نحن أدرى بفشل القطاع العام، الأولى بنا أن ندفع بأبنائنا للقطاع الخاص، المخلص من الفشل المحتم والمحقق.
التخطيط للتعليم ليس مسألة سهلة إذ يتطلب كتيبة متكاملة من الخبراء والمتخصصين، وليست لدى كل الدول الطاقات العلمية المؤهلة لذلك، ومعظم البلدان التي حققت قفزة متقدمة في نظامها التعليمي – كالشأن مع سنغافورة وكوريا الجنوبية – لم تفعل ذلك إلا بعد أن أرسلت بعثات علمية عديدة قصد جلب الخبرة من دول عريقة في المجال التعليمي مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، ونفس الأمر قام به المغرب سابقا لكنه لم يفلح، واستيراد المناهج ليس حلا للمشكلة، فلكل مجتمع ظروفه التاريخية والمجتمعية والثقافية التي يعيشها. يتطلب التخطيط للتعليم بلورة رؤية فكرية واضحة تتناسب مع متطلبات العصر من جهة وطبيعة المجتمع من جهة ثانية، والأهم من ذلك إقرار ميكانيزمات دقيقة لتقييم المخططات المراد تنزيلها، مع تتبع مستمر وتعديلها بما يناسب الوضع إن لزم الأمر، ووضع آليات محددة للمساءلة والمحاسبة، بالإضافة إلى تكوين كوادر تعليمية مؤهلة للقيام بمهمة التدريس على أفضل وجه.
لن ننسى بطبيعة الحال انعدام الإرادة السياسية ، فلطالما حرصت نخبة السياسيين والنافذين على توفير تعليم جيد لأبنائها من خلال تدريسهم في المدارس الخاصة أو إرسالهم إلى الخارج، وبالمقابل لامبالاة القيادات السياسية بجودة التعليم العمومي، بل بالعكس تمعن في خوصصته عاما بعد عام، إنه – كما قال الأكاديمي يحيى اليحياوي- أداة حكامة سياسية واجتماعية فريدة، يتم توظيفها من لدن الدولة بكل مستوياتها، بغرض خلق تراتبية إجتماعية تعيد إنتاج السائد المهيمن .
تقضم وزارة التعليم حوالي %30 من إجمالي الميزانية، حيث يضاهي غلافها المالي نظيراتها في بلدان متقدمة كالدانمارك، غير أن الفساد المستشري داخل المنظومة التعليمية يؤدي إلى ضياع الأموال الوفيرة دون أن تنعكس في الواقع، وتمتلئ صفحات الجرائد بالفضائح المالية لمسؤولي الوزارة والعمادات والمدارس، وقد بدا الفساد بشكل جلي كجزء من المشكلة يعرقل الإصلاح حينما اختفت الأموال السخية المعتمدة لتنزيل المخطط الاستعجالي، دون أن تظهر مخرجات المخطط على أرض الواقع.
إهمال الأسرة له دور جوهري في هذه المعضلة، فالأسرة تمثّل اللبنة الأساس في المنظومة التعليمية، رغم أن كل المناقشات حول الموضوع تغفل هذه الزاوية، إنها المؤسسة الأولى التي تتحمل مسؤولية تعليم الفرد، غير أن الأسر المغربية تعاني الكثير من الأعطاب التي تمنعها من أداء مهمتها تلك، بسبب انتشار الأمية والفقر في المجتمع وكذا ضعف التوجيه وتبخيس قيمة التعليم، والنظر إليه باعتباره مشروعَ وظيفة لأبنائها أكثر مما هو فرصة لتكوين ذواتهم.
كل هذه الأسباب تجعل مهمة إصلاح التعليم مهمة شاقة، بينما لا توجد أي مؤشرات حتى الآن تدل على أن النظام التعليمي المغربي بدأ يسير في الإتجاه الصحيح، ناهيك عن أن المعارف ومتطلبات العصر تزداد تطورًا وتعقيدًا مما يصعب مهمة اللحاق بالركب، ويضع المزيد من التبعات على المسؤولين والخبراء لأجل البدء في رؤية واضحة لمواجهة حالة التردي التعليمي في المغرب.