فرضية الصيام و مراحله ..
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( الصيام )
الجمعة 24 يونيو 2016 – 15:00:18
• الصيام فريضة من فرائض الدّين الحنيف و ركن من أركانه ، شرعه الله لهذه الأمة ، كما شرعه لمن سبقها من الأمم ، و قد أجمع المسلمون من عهد التشريع على أن من أنكر فرضية الصوم أو أوَّلَ طلبه، أو حرَّف وضعه ، كان خارجًا عن ربقة الإسلام لا تجري عليه أحكامه ، ولا يعد من أهله ، وهذا الحكم في سائر ما ثبتت فرضيته أو حُـرمته بمصدر تشريعي قطعي في ثبوته عن الله ، ودلالته على معناه، وتناقُـل جميع المؤمنين العلم به هكذا ، جيـلاً عن جيل ، وطبقة عن طبقة . .
وفرضية صيام شهر رمضان ثابتة في كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع المسلمين ، قال الله تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ * إلى قوله تعالى { .. وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
هذا من حيث الكتاب ، وأما السُنّة فأحاديث كثيرة منها الحديث المتفق عليه لدى الشيخين : ” بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ” ، وما يقوم عليه البناء هو وصفٌ مفهم يفيد الجزم في الطلب. فهذهِ الخمسة وردت في النص بأن الإسلام يبنى عليها ، أي هي من أركان الإسلام ، وبالتالي فالصوم فرض.
أما من حيث الإجماع فقد أجمـعَ المسلمون على وُجُــوب صيام شهر رمضان، و أنّأأهُ أحد أركأان الإسلام ، و من أنكره لا يكون مُسلمـًا، و من أقر بوُجـوبـهِ و لم يصمه من غير عُذر ، يُحبس ، و يُضرب ، و يُعزر، فقد أتي إلى عُمر رضي الله عنه برَجُــل نشوان قد شرب الخمر في رمضان، أمر به فضرب ثم سيره إلى الشام .
و كانت فرضية الصيام في باديء الأمر فريضة اختيارية بين الصوم و بين الإفطار مع إطعام كل يوم مسكينا ، قال معاذ : كان في ابتداء الأمر : من شاء صام و من شاء أفطر و أطعم عن كل يوم مسكينا لقوله تعالى ” وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له ” ، فكان الصيام بين التخيير في المرحلة الأولى مع الفدية ، ثم انتقل إلى صوم الفرض فعن ابن أبي ليلى رحمه الله قال : حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ، و رخص لهم في ذلك فنسختها ” وأن تصوموا خيرًا لكم إن كنتم تعلمون ” فأمروا بالصيام .
أما المرحلة الثانية ففيها أنزل الله تعالي قوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًي لِّلنَّاسِ وَبَينَاتٍ مِّنَ الْهُدَي وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيصُمْهُ) فأثبت الله صيامه علي الصحيح المقيم ، ورخص فيه للمريض والمسافر، كما أثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام بعد ذلك.. وفي هذه المرحلة كان اليوم كله صياما ، أما فترة الإفطار فكانت تقع ما بين المغرب والعشاء فقط ، فيجوز فيها الأكل والشرب والجماع ، فإذا أذن المؤذن لصلاة العشاء أو نام الشخص قبلها ، حُرم عليه الطعام والشراب والشهوة إلي المغرب من اليوم التالي.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة ، فجاءت عقب قصتين لرجلين نزل فيهما قرآن ليؤسس للمرحلة الثالثة والأخيرة من مراحل فرضية الصيام.. فالرجل الأول صلى العشاء في رمضان ثم جامع زوجته.. فذهب إلى الرسول الرحيم وقال هلكت يا رسول الله.. فقال له: ماذا صنعت؟ قال أتيت أهلي في ليل رمضان بعد العشاء وأنا صائم.. فماذا أنا صانع؟ فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم) انتظر حتي ينزل الله في شأنك حكما.. أما الرجل الثاني فقد دخل بيته قبل المغرب بقليل وقال لزوجته : أعندك طعام نفطر به؟ وقد عاد بعد يوم مليء بالكفاح والنضال والجهاد والسعي على لقمة العيش.. فقالت له انتظر حتي أبحث لك عن طعام ، فخرجت المرأة تسأل الجيران طعاما، وعادت بالطعام ، فوجدت زوجها قد نام وأذن المؤذن لصلاة العشاء ، وقد فات أوان الإفطار، ومن ثم عليه أن يصل الصوم إلى المغرب من اليوم التالي ، فرآه النبي (صلي الله عليه وسلم) منهكا وقد علم ما حدث له ، فقال له : انتظر حتي ينزل الله في شأنك حكما.
وأنزلَ الله مرسومـًا إلهيـًا يقول فيه: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلَي نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّي يتَبَينَ لَكُمُ الْخَيطُ الأَبْيضُ مِنَ الْخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيامَ إِلَي الَّليلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يبَينُ اللّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يتَّقُونَ) ، وهكذا امتد وقت الإفطار في هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من المغرب إلي الفجر، ففي شأن الرجل الأول الذي جامع زوجته في الصيام يقول تعالي: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلَي نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ…) هذا عن الذي أتي أهله في ليل رمضان.. أما الرجل الذي نام حتي فاته الإفطار فنزل قوله تعالي: (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّي يتَبَينَ لَكُمُ الْخَيطُ الأَبْيضُ مِنَ الْخَيطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ليخفف عنه وعن المسلمين ويجعل وقت الإفطار من المغرب إلي الفجر، (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيامَ إِلَي الَّليلِ) أي إلي أذان المغرب ، وهكذا خفف الله تعالى الصيام رحمة بالأمة الإسلامية.
والحكمة من فرض الصيام على التخيير ، التدرج في التشريع لأن أكثر الأحكام كانت على التدرج الزمني في التشريع ، و ذلك من أجل التيسير على الإنسان و رفع الحرج عنه ، و أخذه باليسير في التكاليف و الأحكام ، و خاصة في بداية التشريع حيث كانت الحياة لها أعرافها و تقاليدها تختلف في الكثير منها عما جاء به الإسلام ، فكان من حكمة الإسلام التي انتهجها أنه سلك بالناس طريق التدرج في تشريع الأحكام لكي يسهل عليهم فهم أحكامه على أكمل و جه .
و الصيام في مرحلته الأولى أوجب الله سبحانه الصيام على المسلمين كما أوجبه على الذين من قبلهم حيث أنزل الله تعالي قوله: (يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إلا أن هذه الآية لم تشر في وضوح إلى كيفية صيام الأمم السابقة ، أو مقدار هذا الصوم أو زمانه ، و إن كانت قد أشارت في إجمال إلى فرض الله له على السابقين . و من هنا فقد توقف المفسرون و الفقهاء طويلا أمام هذه المسألة ، ليكشفوا لنا عناصر الشبه بين صيامنا و صيام من كانوا قبلنا .
حيث جاء في تفسير الإمام ابن كثير (رضي الله عنه) أن المسلمين في بداية فرضية الصيام كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، كما كان عليه الأمم السابقة ، و هذا ما رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، و أحيل الصيام ثلاثة أحوال ، و أما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، و صام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام .
و قد كان مشركو العرب قبل البعثة يصومون عاشوراء ، و مما ذكر في سبب ذلك أنهم أذنبوا ذنبا ، فأشار اليهود عليهم بصوم عاشوراء لتكفيره ، و مما يدل عل هذا ما روته سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت : ” كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه في الجاهلية ، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة و ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه و من شاء تركه ” ، أما اليهود و النصارى فقد شرع لهم رهبانهم صوم أربعين يوما إقتداء بالمسيح ، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته ، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم ، فهو عندهم ترك الأقوات القوية و المشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة .
فالصيام هو من الشرائع القديمة في تاريخ البشر ، إذ ورد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : أن يوم عاشوراء يوم استوت فيه السفينة على الجودي ، فصامه نوح شكرا لله تعالى ثم صامه بعد قرون موسى ، شكرا على نجاته من فرعون و بطشه .
و نبي الله تعالى داود عليه السلام ، فقد ورد خبر صيامه الذي هو أفضل صيام التطوع ، في حديث النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حين قال له : ” صم يوما ، و أفطر يوما ، فذلك صيام داود عليه السلام و هو أفضل الصيام ” .
و هكذا تبين لنا أن الصيام هو عبادة قديمة في الشرائع السابقة إلا أنها تختلف عن صيامنا في الكيفية و الزمن و القدر و الوصف . .