سُـنّة الابتلاء
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( الابتلاء )
الأربعاء 08 يونيو 2016 – 13:27:54
إلا أن كثيرًا من الناس يَغفُلون عن سنة الله في الابتلاء ، فيتوهَّمون أن الابتلاء بالسراء دليل كرامة ، وأن الابتلاء بالضراء دليل إهانة ، وكأنهم نسُوا قول ربهم: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ .
نعم ، إنّ الله جلّ وعلا يبتلى عباده تارة بالسراء والأمور المفرحة من أنواع النعم وصنوف المباهج وألوان الملذات ، ويبتليهم تبارك وتعالى تارة بالمصائب والبلايا والرّزايا والمحن ، وكل ذلك ابتلاء ، فالمنعَم عليه بأنواع النِّعم مُبتلى ، والمصاب بأنواع المصائب مبتلى والمؤمن في نوعي الابتلاء صائرٌ إلى خير ومُقدمٌ إلى خير، وهاهنا يَعجَبُ نبينا صلوات الله وسلامه عليه كما جاء في حديث صهيب بن سنان وهو في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ ، إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ ، وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ ” .
والابتلاء تتنوع صوره وأشكاله ، فقد يكون خوفا ، أو جوعا ، أو نقصا في الأموال أو الأنفس أو الثمرات ، و ذلك بضياع الأموال ، وموت الذرية ، وهلاك الثمرات ، قال تعالى : ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ ﴾ ، فالابتلاء يحتاج من المؤمن إلى صبر وثقة ويقين بربه – سبحانه ـ بأن يعتقد أن ما كتبه الله وقدره إنما هو خيرٌ له في دينه ودنياه ، وأن هناك حكم ومنح عظيمةٌ يدركها أو لا يدركها ، وأن بعد الشدة يأتي الفرج وبعد العسر يأتي اليسر ، فعلى المؤمن أن يحسن الظن بربه وأن يلجأ إليه ، قال – تعالى- وهو يخاطب المؤمنين وهم في موضع الابتلاء { لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } .
إن من سنن الله في خلقه أن جعل البلاء سببا لمغفرة الذنوب و رفع الدرجة و علو المنزلة ، فعن أبي هُرَيْرَةَ قال : إِنِّي دَخَلْتُ عَلَى أم سلمة أَعُودُهَا مِنْ شَكْوَى ، فَنَظَرَتْ إِلَى قَرْحَةٍ فِي يَدِي ، فَقَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” مَا ابْتَلَى اللَّهُ عَبْدًا بِبَلَاءٍ وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةٍ يَكْرَهُهَا إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْبَلَاءَ لَهُ كَفَّارَةً وَطَهُورًا ، مَا لَمْ يُنْزِلْ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، أَوْ يَدْعُو غَيْرَ اللَّهِ فِيه) ، و كثرة ذنوب العبد إذا لم يكن له ما يكفرها من العمل ابتلاه الله ليكفرها له ، قال عليه الصلاة و السلام : ” لا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ ” ، والبلاء يكون على قدر الإيمان ، فمن زاد إيمانه عظم بلاؤه ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ ” .
وإذا كان هذا البلاءُ سُنة الله تعالى في حياة الناس كافة ، فإن أصحاب الرسالات خاصة أكثر الناس بلاء ، و ذلك راجع بطبيعة مهمتهم في هذه الحياة و هي تبليغ دعوة الله عز وجل ، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال : ” قلت: يا رسول الله أيُّ الناس أشدُّ بلاءً ؟ قال : الأنبياء ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ , فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ في دِينه صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ , وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ من خطيئة “.
فقد ابتلى الله تعالى آدم عليه السلام بالسراء فكرمه وأسجد له الملائكة ، ثم ابتلاه بالضراء فأهبطه من جنة عدن إلى دار الهم والغم و الحزن. وابتلى نوحاً عليه السلام في أهله وولده بكفرهم وصدهم عن سبيل الله وإعراضهم عن دعوته إلى دين الله ، وأي ابتلاء أعظم من أن يرى الأب ابنه يغرق أمامه في موج كالجبال مع من كفر من قومه ، وهو لا يملك صرف الضر عنه ولا تحويلاً .
وابتلي إبراهيم عليه السلام في جسمه فقذف في النار، وابتلي في ولده وفلذة كبده فأمر بذبحه ، وابتلي إلى ذلك بابتلاء من نوع خاص ، وهو تحميله أمانة الإمامة ، حيث قال تعالى:{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. وابتلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته ، وأُلقي في غيابة الجب كما تلقى الأحجار، واتهم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء؟ وألقي بسببها في السجن كما يلقى المجرمون ، فلبث فيه بضع سنين.
و نبي الله أيوب عليه السلام ضرب لنا أروع الأمثلة في الصبر على بلاء الله له مدة طويلة ، فقد ابتلي بضر في جسده وولده وماله ، فلما اشتد الحال ، رفع أكف الضراعة إلى الله سبحانه و تعالى يسأله أن يكشف عنه الضر و البلاء ، فقال: ﴿ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ، فعند ذلك استجاب له ربه ، فأمره أن يقوم من مقامه ، وأن يركض الأرض برجله ، فأذهب الله جميع ما كان في بدنه من الأذى ، وتكاملت له العافية ظاهراً وباطناً، وذلك كله ثمرة الصبر، ونتيجة الاحتساب ، وفائدة الرضا، قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ .
وإن كان الأنبياء مروا بأنواع من البلاء ، فإن الله تعالى ابتلى أحب الناس إليه، وأكرمهم عليه ، وأقربهم عنده ، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمره مولاه جل وعلا بالصبر في آيات كثيرة ، وبين له أن ذلك دأب المرسلين قبله، فطمأن فؤاده بأخبارهم ، وقوى عزيمته بعرض سيرهم ، قال سبحانه: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ ، لقد تفنن قومه في إيذائه ، وتمادوا في معاندته وهو صابر محتسب ، يرفع رأسه إلى السماء ويقول: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » .
وكذلك العبد المؤمن في هذه الحياة الدنيا لا يمكَّنُ حتى يبتلى، أي أنه لا ينال مراتب العلو في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد أن يبتلى ، قال تعالى: ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ﴾ ، فحياته كلها مليئة بالمصائب والابتلاءات ، لذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم – مبشراً للمؤمن بما يصيبه: ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ، وَلا نَصَبٍ ، وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ وَلا أَذًى حَتَّى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ).
ولهذا لما سَأل رجلٌ الإمام الشافعي فقال له: { أيهما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يُبتلى؟ فقال له : لا يمكَّنُ حتى يُبتلى، فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – فلما صبروا مكَّنهم ، فلا يظن أحدٌ أن يَخْلُصَ من الألمِ أَلْبَتة) .
فالابتلاء سنة الله تعالى في خلقه ، فالعباد يتقلبون بين فتنتين ، فتنة الخير وفتنة الشر، وهذا كله من باب الابتلاء والاختبار، لينظر سبحانه وتعالى إلى صبر عباده وشكرهم ، وليعلم الصادق من الكاذب. قال تعالى ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ .
البلاء فيه تمحيص واختبار لمن لزم الجادة ، وأراد الوصول إلى الجنة ، فهي سُنَّة كونية مقدرة على العباد إلى يوم الميعاد ، فلا مرد لها، ولا سبيل لإيقافها، فالناس فيها قسمان ؛ قسم صبروا ورضوا بقضاء الله وقدره ، ففازوا بالحسنيين، وقسم قنطوا ويأسوا فخسروا الدنيا والآخرة.
لذا وجب على المسلم الذي يبتلى في دينه ، أو نفسه ، أو ولده ، أو ماله ، أو غير ذلك من أنواع الابتلاءات أن يصبر نفسه ، وأن يرضى بقضاء الله وقدره ، وأن يحمد الله تعالى على تدبيره.
لأن الابتلاء قدر الله على عباده ليرى منهم التسليم بقضائه ، وصدق التوجه إليه في رد بلائه ، وهذا يحتاج إلى إيمان ويقين ، فبدون الإيمان واليقين لا يمكن أن يصبر العبد على ما يعتريه من محن وابتلاءات.
لذا ينبغي للمسلم أن يكون صابراً وراضياً بما يصيبه من البلاء ، وشاكراً لربه تعالى على نعمة البلاء ، فغيره منها محروم، فإنَّ حكمة الله اقتضت اختصاصه غالباً بنزول البلاء تعجيلاً لعقوبته في الدنيا أو رفعاً لمنزلته .
إلا أن مما يؤسف له أن بعض المسلمين ممن ضعف إيمانه إذا نزل به البلاء تسخط وسب الدهر, ولام الله خالقه في أفعاله ، وغابت عنه حكمة الله في قدره واغتر بحسن فعله فوقع في بلاء شر مما نزل به وارتكب جرماً عظيماً.