عقــوق الوالدين
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( عقوق الابناء )
الأربعاء 25 ماي 2016 – 15:24:43
العقوق لغة : عَقَّ ، يَعُقُّ عقوقاً : العقُّ : الشقُّ و القطع ، يقال : عقَّ ثوبه ، كما يقال: شقَّ ثوبه .
قال ابن الأثير رحمه الله : ((يقال : عق والده يعقُّه عقوقا ، فهو عاقٌّ : إذا آذاه وعصاه ، وخرج عليه ، وهو ضِدُّ البِرِّ به ، وأصله من العقِّ : الشقِّ والقطع } .
و عقَّ والديه : عصاهما ، وترك الشَّفقة والإحسان إليهما .
العقوق شرعاً : ذكر العلماء لعقوق الوالدين عدة تعريفات منها:
1ـ تعريف الإمام القرطبي المحدِّث : ” عقوق الوالدين : مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما ، كما أن برهما : موافقتهما على أغراضهما الجائزة لهما ، وعلى هذا إذا أمرا ، أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه ، إذا لم يكن ذلك الأمر معصية ، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباحات في أصله ، وكذلك إذا كان من قبيل المندوبات” .
2 ـ تعريف ابن الصلاح : ” العقوق المحرم : كلُّ فعل يتأذى به الوالد ، أو نحوه ، تأذياً ليس بالهيِّن مع كونه ليس من الأفعال الواجبة “.
3 ـ تعريف ابن حجر رحمه الله : العقوق أن يحصل لهما أو لأحدهما أذىً ليس بالهيِّن عُرفًا.
أهم صور العقوق وحكمها:
إنَّ الاسلام جعلَ عُقـوق الــوالدين و قطع صلاتهما و برهما من كبائر الذنوب بعد الكفر والشرك بالله . إذ جاء عنه صلى الله عليه وسلم : فيما رواه عنه أبوبكرة ، أنه قال ” ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله و عقوق الوالدين و قتل النفس و شهادة الزور و الزنا ” و اعتبر رضا الرب في رضا الوالدين وسخطه سبحانه وتعالى في سخطهما، قال رسول الله ﷺ : ” رضا الله في رضا الوالدين وسُخط الله في سخط الوالدين ” ، كما أن العاق لوالديه يعرض نفسه لدعاء والديه عليه ، ودعاؤهما مستجاب فقد ورد في الحديث : “ ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ: دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده”.
ومن صُور العقوق أن يتسبب الولد في سب ولعن أبويه أو أحدهما ؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ (إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه). قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال رسول الله ﷺ : (يسُبُّ الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه).
كما أنه موجب لسخط الوالدين ودعائهما عليه. وقد جاء في الحديث النبوي : “ إياكم ودعوة الوالد ، فإنها أحدّ من السيف”. كما أن العاق يعاني شدائد النزع وسكرات الموت ، روى السَمَرْقَنْدِيّ عن أنسٍ رضي الله عنه : أن شاباً كان على عهد رسول الله ﷺ صلى الله عليه وسلم يسمى عَلْقَمَة ، فمرض علقمة واشتد مرضه ، فقيل له : قل لا إله إلا الله . فلم ينطلق بها لسانه ، تلعثم ، دُعِيَ إلى أن يشهد هذه الشهادة مرَّاتٍ عديدة قبل أن يفارق الحياة ، فلم ينطق لسانه بهذه الشهادة ، أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال عليه الصلاة والسلام : هل له أبوان ؟ فقيل : إن أباه قد مات، وله أمٌ كبيرة ، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام إليها فجاءت ، فسألها عن حال ابنها ، فقالت يا رسول الله : كان يصلي و يصوم و يتصدَّق فقال عليه الصلاة والسلام : فما حالكِ معه ؟ ما علاقتكِ به ؟ قالـت : يا رسول الله أنا عليه ساخطة ، فقال عليه الصلاة والسلام : ولِمَ ذلك ؟ قالت : كان يؤثر عليَّ امرأته ، ويطيعها ويسخطني ، فقال عليه الصلاة والسلام : سخط أمه حجـب لسانه عن شهادة لا إله إلا الله . ثم – وعلى مسمع الأم – قال : يا بلال انطلق واجمع حطباً كثيراً حتى أحرقه بالنار . فقالت : يا رسول الله : ابني ، وثمرة فؤادي ، وتحرقه بالنار بين يدي ؟ وكيف يحتمل قلبي ذلك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : أيسرك أن يغفر الله له ؟ قالت : نعم ، قال : فارضي عنه ، فوالذي نفسي بيده لا ينتفع بصلاته ، ولا بصيامه ، ولا بصدقته ما دُمْتِ عنه ساخطة . فرفعت يديها إلى السماء وقالت : أشهد الله تعالى في سمائه ، وأنت يا رسول الله ، ومَنْ حضر أني قد رضيت عنه . فقال : يا بلال انطلق إلى علقمة فانظر هل يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله ، فانطلق بلالٌ فلما انتهى إلى الباب سمعه يقول : لا إله إلا الله ، ومات من يومه ، وغُسِّلَ ، وكُفِّنَ ، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
إن للعقوق مساوئ خطيرة ، وآثار سيئة تنذر العاق وتتوعده بالشقاء الدنيوي والأخروي ، فمن آثاره أن العاقّ يعقّه ابنه… جزاءً وفاقاً على عقوقه لأبيه.
قال الأصمعي : حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعقَّ الناس ، وأبرَّ الناس ، فكنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحرِّ الشديد ، وخلفه شاب في يده رشاء {أي حبل} ملوي يضربه به ، قد شق ظهره بذلك الحبل ، فقلت : أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ؟ أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه ؟ قال : إنه مع هذا أبي . فقلت : فلا جزاك الله خيرًا . قال : اسكت فهكذا كان هو يصنع بأبيه ، وهكذا كان يصنع .
فانظر كيف قيض الله لهذا الوالد العاق من أبنائه مَن يعقه ! والجزاء من جنس العمل .
فتَبيّنَ أن جزاء عقوق الوالدين في الدنيا أن يعقه أولاده من باب : ” كما تدين تدان ” ، أما من كان بارا بوالديه ، فإن الله تعالى يرزقه بر ذريته ، قال ﷺ :” بروا آباءكم تبركم أبناؤكم” .
أما جَـزاء العــاق لولديه في الآخرة أن الله تعالى لا ينظر إليه وإن دخل الجنة . قال ﷺ صلى الله عليه وسلم : ” ثلاثة لا ينظر الله عزَّ وجــل إليهم يـوم القيـــامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة ، والديوث ” ، وفي رواية : ” لا يدخل الجنة مَنان ، ولا عَـــاق ، ولا مدمن خمر” .
و قال لقمان لابنه : يا بني من أرض والديه فقد أرض الرحمن ، و من أسخطهما فقد أسخط الرحمن .
يا بني : إنما الوالدان باب من أبواب الجنة ، فإن رضيا مضيت إلى الجنان ، و إن سخطا حجبت ” .
و صدقَ الشاعرُ حيث قــال :
غَذَوْتُــكَ مَـوْلُـودًا وَعُلْتُـكَ يَافِــعًــا ……. تُعَلُّ بما أجْنَي عَلَيْكَ وَتَنْهَــــلُ
إذَا لَيْلَةٌ نَــابَتْكَ بِالشَّجْـوِ لَــمْ أَبِتْ ……. لِشَكْــوَاكَ إِلاَّ سَـاهِـرًا أَتَمَـلْـمـَــلُ
كَأَنِّي أَنَا الْـمَطْـرُوقُ دُونَكَ بالَّذِي …… طُرِقْـتَ به دُوني فَعَيْنِيَ تَهْمُـلُ
تَخَافُ الرَّدى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإنَّني …… لأَعْلَـمُ أَنَّ الْمَــوتَ حَتْـــمٌ مُــؤَجَّـلُ
فَلَمَّا بلَغْتَ السِّـنَّ والغَـايَـةَ التِي …… إِليْها مَـدَى ما كُنتُ فِيـكَ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَـزَائِــي غِلْـظَةً وَفَظَـاظـَةً …… كَـأَنَّــك أَنْـــتَ الْمُنْعِــمُ الْمُتَفَــضِّـلُ
فَلـَيْتَكَ إِذْ لَـمْ تَـرْعَ حَــقَّ أُبُـوَّتِـــي …… فَعَلْتَ كَمَا الْجَـارُ الْمُجَــاوِرُ يَفْعَـلُ