نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (28)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (28) )
السبت 11 ماي 2016 – 14:55:58
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
أصلحك اللّه! سل خصمي عن كنيته، فاذا هو أبو عبد الرحمن ـ وكانت كنية معاوية بن أبي سفيان ـ فبطحه وضربه مائة سوط. فقال لصاحبه: ما أخذته منّي بالسم استرجعته منك بالكنية.
قيل إن المنصور بن أبي عامر الأندلسي كان إذ قصد غزاة عقد لواءه بجامع قرطبة، ولم يسر إلى الغزاة إلاّ من الجامع. فاتفق أنه في بعض حركاته للغزاة توجّه إلى الجامع لعقد اللواء. فاجتمع عنده القضاة والعلماء وأرباب الدولة. فرفع حامل اللواء اللواء، فصادف ثُرياّ من قناديل الجامع، فانكسرت على اللواء، وتبدّد عليه الزيت. فتطيّر(1) الحاضرون من ذلك، وتغيّر وجه المنصور. فقال رجال: أشر يا أمير المؤمنين بغزاة هيّنة، وغنيمة سارّة. فقد بلغت أعلامك الثريا، وسقاها اللّه من شجرة مباركة.
حكى الأصمعي قال: كان رجل من ألأم الناس، وأبخلهم، كان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف، فقال: أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل ومعه صاحب له حتّى إذ كان بباب صاحب اللبن غُشي عليه وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن، فقال له: ما باله؟
فقال: هذا سيد بني تميم أتاه أمر اللّه ها هنا، وكان قال: أسقني لبناً! فقال صاحب اللبن: هذا هيّن موجود! يا غلام ائتني بقدح من لبن، فأتاه فأسنده صاحبه إلى صدره، وسقاه حتى أتى عليه، وتجشّأ(2) فقال صاحبه لصاحب اللبن: تقول هذا راحة الموت؟
ففطن لهما وقال: أماتك اللّه ويّاه!
قيل الأعرابي: كيف تبترد بالبادية إذ انتصف النهار، وانتقل كل شيء ظلّه؟ فقال: وهل العيش إلاّ هناك؟ يركض أحدنا ميلاً فيرفضّ عرقاً كالجمان، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه وتقبل عليه الرياح من كل جانب، فكأنه في إيوان كسرى.
كان بالكوفة رجل يقال له مصلح، فبلغه أن بالبصرة رجلاً من المصلحين مقدّماً في شأنه، فسار الكرفي إلى البصرة، فلما قدم عليه قال له: من أنت؟
قال: أنا مصلح جئتك من الكوفة لمّا بلغني خبرك. فرحّب به وأدخله موضعه، وخرج يشتري له ما يأكل. فأتى جبّاناً فقال له: أعندك جُبن؟
قال: عندي جبنٌ كأن سمن.
فقال في نفسه: لم أشتري سمناً حين هو يُضرب به المثل؟
فذهب إلى من يبيع السمن فقال له: أعندك سمن؟
فقال: عندي سمن كأنه زيت.
فقال في نفسه: لم لا أشتري زيتاً، حين هو يُضرب به المثل؟
فذهب إلى زيّات وقال: أعندك زيت؟
قال: عندي زيت صافٍ كأنه الماء. فقال في نفسه، ولم لا أشتري ماء حين يُضرب به المثل؟
فرجع إلى بيته، وأخذ صحفة وملأها ماء، وقدّمها للضيف مع كسيرات يابسة، وعرّفه كيف جرى له، فقال الكوفي، أنا أشهد أنك بالاصلاح أحقّ من أهل الكوفة.
كان أشعب يختلف إلى جارية المدينة ويظهر لها التعاشق إلى أن سألته يوماً سُلفهً بنصفٍ درهم، فانقطع عنها، وكان إذا لقيها في الطريق سلك طريقاً أخرى. فصنعت له نشوقاً(3) وأقبلت به إليه. فقال له.
ما هذا؟
قالت: نشوق عملته لك لهذا الفزع الذي بك، فقال: اشربيه أنت للطمع.
فلو انقطع طمعك انقطع فزعي، وأنشأ يقول:
أخلفي ما شئت وعدي وامنحيني كلّ صدّ
قد سلا(4) بعدك قلبي فاعشقي من شئت بعدي
إنّــي آلـيــت لا أعـــــ ــشقُ منْ يعشق نقدي
قال عمر بن ميمون: مررتُ ببعض طرق الكوفة، فاذا أنا باثنين يختصمان، فقلت: ما بكما؟ فقال أحدهما: إن صديقاً زارني، فاشتهى رأساً، فاشتريته وتغدّينا، وأخذت عظامه فوضعتها على باب داري أتجمّل بها، فجاء هذا فأخذها ووضعها على باب داره ليوهم الناس أنه هو الذي اشترى الرأس.
كان لعلي بن أبي طالب، عليه السلام، جارية تدخل وتخرج، وكان له مؤذن شاب، فكان إذا نظر إليها قال لها: أنا، واللّه، أحبك، فلما طال ذلك عليها أتت علياً فخبرته فقال لها: إذا قال لك ذلك فقولي: أنا واللّه أحبك فماذا؟
فأعاد عليها الفتى قوله فقالت له: وأنا واللّه أحبك فماذا؟
فقال: تصبرين ونصبر حتى يوفينا من يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، فأعلمت علياً، فدعا به فزوّجه منها ودفعها إليه.
قيل ليوناني: ما البلاغة؟
قال: تصحيح الأقسام، واعتدال الكلام.
وقيل لرومي: ما البلاغة؟
قال: حسن الاقتصاد عند البديهة والغزارة يوم الاطالة.
وقيل لفارسي: ما البلاغة؟
قال: معرفة الفصل من الوصل.
وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟
قال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب في غير خَطَل.
حكي أن رجلاً ضاف آخر، فانتبه صاحب الدار بالليل، فسمع ضحك الرجل من الغرفة فصاح به: فلان!!
فقال: لبيّك.
قال: أنت كنت في أسفل الدار فما الذي رقّاك إلى الغرفة؟
قال: تدحرجت.
فقال: الناس يتدحرجون من فوق إلى أسفل، فكيف تدحرجت أنت؟
قال: فمن هذا أضحك.
يروي أن أب بكر الصديق رضي اللّه عنه، مرّ طائفاً بالمدينة في خلافته، وإذا بجارية تبكي وتقول.
وهويته من قبل قطع تمائمي متناسباً مثل القضيب الناعم
وكأن نور البدر يشبه وجهه يمشي ويصعد في ذؤابة هاشم
فقرع أبو بكر رضي اللّه عنن الباب، فخرجت إليه، فقال: أحرّة أنت أم أمة؟
قالت: أمة.
فقالت: من هويت؟
فبكت وقالت: سألتك باللّه إلاّ انصرفت عنيّ.
قال: لا بدّ.
فقالت:
وأنا الذي قدح الفراق بقلبها فبكت لحب محمد بن القاسم
فسار أبو بكر رضي اللّه عنه إلى المسجد، وبعث إلى مولاها فاشتراها منه وبعث بها إلى محمد بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تطيّر: تشاءم.
(2) تجشأ: أراد أن يتقيّأ.
(3) نشوق: كل دواء ينشّق عن طريق الأنف.
(4) سلا: هجر. ..