ذكرى الإسراء و المعراج
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش (الإسراء و المعراج )
الأربعاء 11 ماي 2016 – 12:10:04
و قد كانت هذه الحادثة تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم ، و تسرية عن قلبه ، فقد توالت عليه قبيل هذه الحادثة حوادث وأزمات كثيرة ، فإلى جانب ما كان يلاقيه من عنتٍ وعذاب الكفار له وتصديهم لدعوته وإنزال الأذى والضرر به وبمن تبعوه ، فَقَد نصيرًا وظهيرًا له هو عمه أبو طالب ، وكذلك فَقَد شريكة حياته وحامية ظهره السيدة خديجة التي كانت له السند والعون على تحمُّل الصعاب والمشقات في سبيل تبليغ دعوته السامية ، فكلاهما مات قبيل حادثة الإسراء والمعراج ؛ ولذا سمي هذا العام “عام الحزن . فقرر حينها أن يتجه إِلَى الطائف لعله يجد هناك مَنْ يستجيب له ، وَيَنْصُرُ رِسالته ، و لكن الأمر كان بخلاف ما يتوقع ، فقد وقف أولئك فِي وجهه وقوفا قبيحا ، و سلطوا عليه الصبيان و السفهاء ، يرمونه بالحجارة حتى سالَ دمه الشَريف ، فاتّجهَ على الله يقول : ((اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُوْ ضَعْفَ قُوَّتِيْ ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي ، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي ، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوْذُ بِنُوْرِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الْظُّـلُمَاتُ ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ ، أَنْ يَنْزِلَ بِيَ غَضَبُكَ ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى ، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ) .
ومن هنا كان إنعام الله على عبده ورسوله محمد ﷺ بهذه المعجزة العظيمة ؛ إكراما له عند الخلائق أجمعين ، و تطييبًا لخاطره وتسرية له عن أحزانه وآلامه ، و لتكون زادا له فِي عزيمته ، و تجديدا لثباته ثم ليشهد فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المشاهد .
و قد كان الاسراء من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس ، أما المعراج فهو الصعود إلى السماوات السبع وما فوقها.. وقد جاء حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء ، قال تعالى :{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ، وعن المعراج في سورة النجم قال تعالى: { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }..
أما تفاصيل هذا الحدث وهذه المعجزة في السنة النبوية ، فقد ورد بأحاديث صحيحة و بروايات كثيرة متواترة ، و بألفاظ مختلفة ، منها المطول و منها المختصر، و كلها تدل في مجموعها على صحة هذه الحادثة ، و انعقاد الإجماع عليها من حيث ثُبوتها التاريخي ، حيث رَوى حديثها ستة و عشرون صَحـابيــًا ، و قد جمع الحافظ ابن كثير رحمه الله أكثر رواياتهم بأسانيدها في تفسيره .
و مما ورد من الأحاديث الصحيحة ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أتيت بالبراق ـ و هو دابة أبيض طويل فوق الحمار و دون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه ـ قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس ـ قال ـ فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء ـ قال ـ ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر و إناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال جبريل ، قيل : و من معك ؟ قال محمد . قيل و قد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بأدم فرحب بي و دعا لي بخير …” ثم ذكر النبي صلى الله عليه و سلم من لقيهم في السماوات حيث لقي في السماء الثانية ابني الخالة عيسى ابن مريم و يحيى بن زكرياء عليهما السلام و في الثالثة لقي يوسف عليه السلام و في الرابعة لقي ادريس عليه السلام و في الخامسة لقي هارون عليه السلام و في السادسة لقي موسى عليه السلام حتى وصل إلى السماء السابعة يقول : ” … ثم عرج بنا على السماء السابعة فاستفتحَ جبريل فقيل : من هذا ؟ قال جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال محمد صلى الله عليه و سلم قيل و قد بعث إليه ؟ قال قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بابراهيم عليه و السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، و إذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كأذان الفيلة و إذا ثمرها كالقلال ـ قال ـ فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلى ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم و ليلة فنزلت إلى موسى عليه السلام فقال ما فرض ربّك على أمَتك قلتُ خمسين صــلاة ، قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإنّي قد بلوت بني اسرائيل و خبرتهم ، قال فرجعت إلى ربّي فقلت يا رب خفّف على أمتي ، فَحط عني خمسًا فرجعت إلى موسى فقلت حط عني خمسا ن قال إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف . قال فلم ازل ارجع بين ربي تبارك و تعالى و بين موسى عليه السلام حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم و ليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة . و من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا و من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، قال ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى عليه السلام فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه ” .
فالإسراء و المعراج فيهما ايات عظيمة و معجزات خارقة و حكم بالغة ، حادثان من أبرز الحوادث في السيرة النبوية ، اختص الله بها عبده محمدا صلى الله عليه و سلم من دون سائر الأنبياء عليهم السلام ، وأمره أن يصلي بهم في بيت المقدس ، موطن النبوات الأولى ، وأمرهم أن يقتدوا به ، تشريفا لقدره و تعظيما .
و قد بدأت هذه الرحلة بشق الصدر إشارة إلى الإعداد و التهيئة للمقبل على الله ، ِ فبَيْنَمَا الرسول صلى الله عليه و سلم بين القائم و اليقظان إذ فرج سقف بيته ، فإذا الروح الأمين جبريل – عليه السلام – قد نزل على النبي – ﷺ ، فأخذ صدره الشرف فشقه من نحره إلى أسفل بطنه ِ، فغسا قلبه من ماء زمزم .
ثم جاء بطست من ذهب قد ملئ حكمة و إيمانا ، فأفرغها في صدر النبي – صلى الله عليه و سلم – ثم أطبقه . و انتهت بالمثول بين يديه سبحانه و فرضية الصلاة و شاهد فيها صلى الله عليه و سلم السماوات و الجنة و النار ، و سدرة المنتهى و البيت المعمور و التقى بالأنبياء جميعا ، و رأى عقاب تاركي الصلاة و مانعي الزكاة و أكلي الربا و خطباء الفتنة و الغمازين و اللمازين و مرتكبي الزنا ، و عرض عليه اللبن و الخمر و الماء فاختار عليه الصلاة و السلام اللبن إشارة للفطرة الخالصة إلى غير ذلك من المشاهد الكثيرة .
هذا بعض ما ورد من الأخبار الصحيحة في الاسراء و المعراج ، أما من حيث كيفيته و هيئته ، فقد وقع الاختلاف في مسألتين :
الأولى : هل كان الإسراء يقظة أو رؤيا منامية ؟
الثاني : هل كان الإسراء بالروح و الجسد أو بالروح فقط ؟
الفريق الذي ذهب إلى أن الإسراء كان رؤيا في المنام ، استند على حديث رواه ابن إسحاق في السيرة قال : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس أن معاوية ابن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كانت رُؤيا من الله صادقة ، بدليل قوله تعالى ” و ما جعلنا الرؤيا التي أرينك إلا فتنة للناس ” .
أما الفريق الذي رأى أن الإسراء و المعراج كانا بــرُوحه فقط ، فقد استندَ على حديث الذي رواه ابن إسحاق في السِيــــرة ، قال : حدثني بعض أل أبي بكر أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و لكن الله اسرى بروحه .
و المتفق عليه لدى جمهور العلماء أن الإسراء تَــمَّ بالـرُّوح و الجسد معا ، لأنه لو كان بالـــروح فقط لما أحدث خلافــًا . و قد اعتمدوا على أدلَّة كثيرة منها:
1- أنه ثبت أن قُريشا كذّبــــوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه ، ولو كان مناما لما كذّبوه ولا استنكروه ؛ لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس.
2- أن التسبيح والتعجب في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [، إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك منامًا لذكره الله تعالى كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة ، ولمَا كان له كبير شأن.
3- أن الله تعالى أثبت رؤيا القلب بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى []، ورؤيا العين بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} . وأمَّا قولهم أن الرؤيا -بالقصر- مختصٌّ برؤيا المنام، فيمكن ردّ هذا الاستدلال عليهم بأن هذا الاستعمال هنا في رؤيا العين دليل على أنَّ هذا اللفظ ليس خاصا بالمنام.
4- قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} يدلُّ على مجموع الروح والجسد.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : ” ثم اختلف الناس : هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه ، أو بروحه فقط ؟ على قولين ، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناماً ، ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً ، ثم رآه بعد يقظة ، لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، والدليل على هذا قوله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ، ولم يكن مستعظماً ، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذبيه ، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم ، وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، وقال تعالى : ( أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ) وقال تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) ، قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم } ، رواه البخاري
… يتبع ….