بـر الوالــدين
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( بر الوالدين )
الخميس 19 ماي 2016 – 12:05:05
قال القاضي المهدي : ” و البر : هو الصلة ، وإسداء المعروف ، و المبالغة في الإحسان ” .
و قد ورد معنى البر في السنة النبوية مقابل الإثم ، فعن الـنَّـوَّاسِ بن سمعانَ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِرِّ والإثم ، فقال: {{ البِرُّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه النَّاس }} .
قال ابن دقيق العيد: ( أمَّا البِرُّ فهو الَّذي يُبِرُّ فاعلَه ، ويلحقه بالأبرار، وهم المطيعون لله عزَّ وجلَّ. والمراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة ، والرِّفق في المحاولة ، والعدل في الأحكام ، والبذل في الإحسان ، وغير ذلك من صفات المؤمنين } .
و من أوجب البر أن نحسن إلى من أحسن إلينا ، ونكافئه بأفضل مما لدينا ، يقول الله تعالى” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان” و أفضل درجات البر الإحسان إلى الوالدين ، لأن فضلهما علينا عظيم وخيرهما عميم ، وبرهما أمر قضاه الرحمن قال تعالى” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا” وقد جعل الله للوالدين منزلة عظيمة لا تعادلها منزلة ، فجعل برهما والإحسان إليهما والعمل على رضاهما فرض عظيم ، والحديث معهما بكل أدب وتقدير ، والإنصات إليهما عندما يتحدثان ، وعدم التضجر وإظهار الضيق منهما ، وقد دعا الحق سبحانه إلى الإحسان إليهما وذكره بعد الأمر بعبادته حيث قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ، وقد ورد ذكر الإحسان إلى الوالدين في القرأن في عدة مواضع أخرى عديدة ، تأكيداً من الله تعالى على أهميته ، فقد قرن الله تعالى الإحسان للوالدين بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية هذا العمل عند الله تعالى وهو عهد وميثاق ، أخذه الله عز وجل على العباد قال تعالى” وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ” .
إن بر الوالدين هو من أفضل الأعمال التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه تعالى ، ويكون برهما بأن يفعل الإنسان ما يسعدهما حتى ولو كان على حساب وقته وصحته ، وأن يكونا من أحب الناس على قلبه نظراً لما قدموه خلال حياته الطويلة الممتدة ، ويجب أن يتودد إلى أصدقائهما ، وأن يبتعد عما يغضبهما ، كل هذا من شأنه أن يعلي قيمة الإنسان في الدنيا والآخرة ، لأن برهما يؤدي إلى رضا الله تعالى عن الإنسان ، ورضاه عنه يؤدي إلى سعادة لا نهاية لها في الدنيا و في الآخرة ، فالله هو غايتنا و مبتغانا في هذه الحياة الدنيا، وهو العالم بأمورنا والأدرى بأحوالنا وبالذي سيسعدنا والذي سيضرنا، لهذا أولى الإسلام للوالدين اهتماماً بالغاً، حيث جعل طاعتهما وبرّهما من أفضل القربات إلى الله تعالى ، صالحين كانوا أو طالحين ، فطاعتهما واجبة ما لم تكن في معصية ، ونهى كذلك عن عقوقهما ، وشدّد على هذا الأمر كثيراً ، كما ورد في القرآن الكرين قوله سبحانه وتعالى:” وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ” ، وكلمة القضاء في الآية جاءت بمعنى الوجوب و الإلزام والأمر. كما أنّه سبحانه وتعالى قد قرن شكرهما بشكره في قوله سبحانه وتعالى:” أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ “، فإنّ الشّكر لله سبحانه وتعالى يكون على نعمة الإيمان ، وأمّا شكر الوالدين فيكون على نعمة التّربية الصّالحة ، وقد قال سفيان بن عُيينة:” مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَمَنْ دَعَا لِوَالِدَيْهِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَهُمَا ” . كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال :” سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل؟ قَال: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ “، فمنطوق هذا الحديث يدل على أنّ برّ الوالدين من أفضل الأعمال بعد الصّلاة ، والتي هي دعامة من دعائم الإسلام ، وقد قدّم الرّسول – صلّى الله عليه وسلّم – برّ الوالدين في الحديث على الجهاد ، حيث أنّ برّ الوالدين فرض عين ، ولا ينوب عنه فيه أحد آخر، فقد قال رجل لابن عبّاس:” إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ ، وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي. فَقَال: أَطِعْ أَبَوَيْكَ ، فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ “، ولا يختصّ برّ الوالدين بكونهما مسلمين ، بل حتى ولو كانا كافرين فإنّه يجب عليه أن يبرّهما، ويحسن إليهما ، ما لم يأمراه بشيء فيه شرك أو معصية للخالق ، فقد ورد عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها ذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تستشيره عن صلة أمها عندما قدمت و هي راغبة في تجديد الصلة ، قالت : قدمت علي أمي و هي راغبة ، أفأصل أمي ؟ قال : ” نعم صلي أمك ” .
و من صور المعبرة عن بر الوالدين ما حكاه القرأن الكريم عن أنبياء الله ورسله ، فهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام قد بلغ في البر غايته ، فقد روي أن أزر سب ابنه إبراهيم ـ عليه السلام ـ و قال له ” لئن لم تنته لأرجمنك و اهجرني مليا ” فقال له إبراهيم عليه السلام : ” سلام عليك سأستغفر لك ربي ” فهذا بره بأبيه الكافر ، خاطب خليل الرّحمن إبراهيم عليه السّلام أباه بلطف شديد ، وإشفاق واضح ، وحرص عليه ، ورغبة في الهداية والنّجاة ، والخوف من غوايته وهلاكه ” ، ويصف القرآن الكريم لنا بر سيدنا يحيى عليه السلام بوالديه ، فيقول الله تعالى ” وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا ” وقد خلد لنا القرآن الكريم بر سيدنا عيسى عليه السلام بأمه الصديقة الطاهرة العفيفة ، فقال تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ” وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ” .
و أثر بر الوالدين لا ينحصر في حياتهما ، بل يصل إليهما بعد موتهما ؛ بأن يدعو لهما بالرحمة والمغفرة ، وينَفِّذَ عهدهما ، ويكرمَ أصدقاءهما و أحبابهما . فقد جاء رجل من بني سلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، هل بقي من بر أبوي شيء أبرُّهما به من بعد موتهما ؟ قال: نعم. الصلاة عليهما (الدعاء) ، والاستغفار لهما ، وإيفاءٌ بعهودهما من بعد موتهما ، وإكرام صديقهما ، و صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) ، و قد عمل الصحابة و التابعون رضوان الله عليهم بهذه الوصية النبوية ، فقد ورد عن أبي بردة أنه قال : أتيت المدينة فأتاني ابن عمر فقال : تدري لم أتيتك ؟ قلت لا ، قال : إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ” من أراد أن يبر أباه في قبره فليصل إخوان أبيه ” ، و إنه كان بينك و بين أبي إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك ” . ولهذا حثَّ الحق سبحانه كلَّ مسلم على الإكثار من الدعاء لوالديه في معظم الأوقات ، فقال تعالى في سورة إبراهيم رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ، واستغفار الابن لأبيه المؤمن يرفع درجته في الجنة ، و يعجب هو من ذلك ، و في ذلك يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:” إنّ الله ليرفع الدّرجة للعبد الصّالح في الجنّة ، فيقول: يا ربّ أنَّى لي هذه ؟ فيقول: باستغفار ولدك لك “.
إن بر الوالدين يكون بطاعتهما وشكرهما ، فمن شكر والديه فقد شكر الله سبحانه ، قال تعالى” أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير” ، قال سفيان بن عيينة : من دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما، ويكون ببذل المعروف لهما والإحسان إليهما بالقول والفعل والمال ، فنخاطبهما باللين واللطف والقول الكريم والعبارة الحسنة ، ولا نستخدم أية كلمة تؤذي شعورهما أو تخل بحسن المودة لهما، قال الله تعالى” فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ” ، ونكون في خدمتهما وقضاء حوائجهما ونقوم على شؤونهما وتيسير أمورهما ، وننفق عليهما بنفس طيبة وقلب راض وصدر منشرح ، ومهما قدمنا للوالدين فلن نوفيهما حقهما ، قال صلى الله عليه وسلم ” لا يجزي ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه “، و قد جعل الاسلام طاعتهما و العمل من أجلهما جهادا في سبيل الله ، ورد أن رجلا جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال له : ” أحي والداك ” قال : نعم ؟ قال : ” ففيهما فجاهد ” ، كما أن برهما عند كبرهما وضعفهما سبب لدخول الجنة ، فمن قصر في ذلك فاته دخول الجنة وأرغم الله أنفه ، فحينما صعد النبي صلى الله عليه و سلم المنبر فقال : آمين ، صعد الدرجة الثانية فقال : آمين ، صعد الدرجة الثالثة فقال : آمين فقيل له : يا رسول الله علامَ أمَّنت ؟ فقال : جاءني جبريل فقال لي : خاب وخسر رغم أنف عبدٍ أدرك والديه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة )). و قد بين النبي صلى الله عليه و سلم في حديث أخر ، أن بر الوالدين هو الطرق الموصل إلى الجنة فقال : ” الوالد أوسط أبواب الجنة ، فإن شئت فأضع هذا أو احفظه ” .
إن من لوازم البر توقير الوالدين ، و التذلل لهما ، و خفض الجناح لهما ، فقد كان هذا دأب و ديدان السلف الصالح رضوان الله عليهم ، فمما حكي عن عبد الله بن عون أنه ذات مرة نادته أمه فأجابها بصوت عال فأعتق رقبة ، و ليس هذا غريبا على ابن عون إذا كان شيخه ابن سيرين يبر بأمه ، فقد روى ابن عون عنه أنه إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضا من خفض كلامه عندها ، و ليس غريبا أيضا أن يقع ذلك من ابن سيرين فشيخه أبوهريرة ـ رضي الله عنه ـ كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال : السلام عليك يا أماه و رحمة الله و بركاته ، فتقول : و عليك السلام يا و لدي و رحمة الله و بركاته ، فيقول : رحمك الله كما ربيتني صغيرا ، فتقول : رحمك الله كما بررتني كبيرا .
و هذه هي وصية الرحمن لعباده المؤمنين قال تعالى ” وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حسنا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ “…