تكريما لروح الفقيد العلامة الموسوعي الدكتورعبدالهادي التازي (1)
جريدة طنجة – محمد وطاش (الذكرى الأولى لرحيل العلامة عبد الهادي التازي (1) )
الأربعاء 06 أبريل 2016 – 13:18:00
•في اليوم ثاني من أبريل/نيسان من سنة 2015 فقدت الأمّـة عَلَمـًا من أعلامها الأفذاذ، فقدت الفقيه المؤرخ” عميد المؤرخين المغاربة”، المترجم المحقق، الدبلوماسي الرحالة،العضو بأكاديمية المملكة المغربية، والعضو بمجمع اللغة العربية، العلامةالموسوعي، الدكتورعبدالهادي التازي .عام يدورعلى رحيل روح مرشدنا على جناح ملاك الموت إلى دار البقاء ملبية نداء ربها:”ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية،فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”.
وتزكية لوشائج المَحبّة الأزلية الــرّابطة بين مُهجتنا ورُوح الفقيد العزيز، ارتأينا أن نستحضر-في الذكرى الأولى لرحيله إلى دار البقاء – باقة من الرسائل العطرة التي بعث بها إلينا رحمه الله،في مناسبات معينة،دعما و تشجيعا وتعقيبا على بعض ما نشرناه من مقالات عبر سلسلة حلقات ضمن ركن” نبش في الذاكرة…” بجريدتي طنجة و الشمال ؛ وهي رسائل لطيفة لاتخلو من متعة وفائدة.. كما كان سعادته لا يتقاعس عن مراسلتنا ولو كان على سفر أوحل به سقم ،حيث راسلنا رحمه الله من أرض الكنانة في أوج ربيعها،وكذا بعد عودته من مسقط (عمان )وإثرعدد من الرحلات العلمية قادته إلى بعض بلدان الخليج، كما راسلنا – رحمه الله- وهو طريح الفراش بالمستشفى العسكري بالرباط.
وإنّه لشرف عظيم أن يحظى شخصنا المتواضع بصفة “النباش”من لدن هذا الرجل العظيم الذي ستظل محبته متجذرة في أعماق وجداننا إلى يوم تحشرفيه أجسادنا، فتتعانق بفرحة اللقاء بعد حرقة فراق ولوعة اشياق أرواحنا.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
أشكر للذين ينبشــون في الذاكرة… وأقــول لهــم، إن أجرهم ليكتب عند الله مرتين اثنتين : الأولى لأنهم ينبشُون، والثانية لأنهم يُنبهون الغافلين لكي ينبشوا!
قرأت عمودك الممتع حول قصيدة )العصيدة) وإن الإنسان إذا لم تحركه “المائدة” التي بين يديه كل يوم لا يستحق أن يكون إنساناً ولو أنها أي المائدة هي التي تكون وراء نهايتنا!! على ما يقوله الشاعر ابن الرومي في رثاء والدته :
تهد منــا الأيامُ وهي حياتُنـا *** وتغْتالنا الأقواتُ وهي لنا طَعم!
والواقع أن الحديث عن “الموائد” لا يخلو من “فوائد”، ورجائي أن يبقى أخونا وطاش نباشاً على مدى الدهر… لا سيما حول المائدة المغربية التي تعتبر على الصعيد الدولي مادةً غنية تعبر عن الحضارة العالية التي وصلها الإنسان أيّ إنسان! ولعل الأخ الكريم قرأ ما ورد في المجلد الثاني صفحة 307 من موسوعتي حول (التاريخ الدبلوماسي للمغرب(، وهي موجودة في مكتبات طنجة على ما أذكر،ولا سيما في مكتبة أستاذنا الراحل عبد الله كنون. في هذا الجزء الثاني ستقرؤون حديثي المختصر جداً عن المائدة المغربية في حديث الواردين على المغرب من سفراء ومبعوثين وعلماء…
لقد وصفتُ الصحن الأريستقراطيَّ المعروف عند المغاربة باسم )البسطيلة(،هذا الصحن الذي لا يعتبره المغاربة صحناً رئيسياً، وإنما من )المقبّلات( فقط، مع أنه صحنٌ كافٍ وحده ليكون الأول والآخر، نظراً لما يحتوي عليه من ألوان وأنواع تُنسيك فيما يقوله الأطباء عن الكوليسطيرول! النظرُ إلى البسطيلة PASTELA وحده يحملك على التأمل…
كانت الأكلةَ المحببةَ التي تُقدم للفاتحين في الأندلس! وقد تحدث عنها بعض الدبلوماسيين البريطانيين منذ أيام عهد السعديين ونعتوها بالأكلة الرائعة، فعلاً رائعة، تتكون على ما عهدناه بالأمس من الحَمام المحْشُو، واللّوز المطحون وأنواع البهارات التي تأتينا من الهند والسند وكَاكُولا التي ذكرها ابن بطوطة!… إنك إذا أردت أن “تنبش” في مواد البسطيلة، كان عليك أن تقوم برحلة طويلة تصل بك إلى المواقع الجغرافية التي وردت عند أصحاب الشعر الملْحُون وهم يتحدثون عن “دمليج زهيرو” الذي ضاع لعشاق زهيرو!
كل هذا الصحن يقدمونه لنا في الشمال على أنه فقط مُقبل ـ كما قلت ـ قبل أن تلحقه أنواع الطعام الأخرى من مبخرات ومطبوخات، مما تبرع فيه المرأة التي كانت يداها ترنُ بأنواع الزي، معبرة عن جمال الطي!!.
الذي أريد أن “أنبشه” معك يا وطاش هو أن هذه البسطيلة الرفيعة الدقيقة الصنع تحتاج إلى وقت طويل لإحضـــارها مــن لـــدن السيدة المغربية! ولنا الآن اتفاقياتٌ مع بعض المطاعم العالمية لتحضير “البسطيلة” وما أدراك ما هي!!
وقد كان الأدباء في الرباط وخاصة أثناء القرن الماضي بمناسبة المجالس العلمية،يتراهنون بتقديمها لمنافسيهم عند المواجهات العلمية حول مشكل أدبي أو لغز فقهي :
وجعلــوا عليه في المشاكِـلْ *** بسطيلتين لانتفا المشاكـل!
وكما هي العادة في التنافس بين أهل الجنوب وأهل الشمال، فقد قرأنا من طريف الشعر لأحد أدباء سوس مفضلاً أكلة )أملّو(الجنوبية على أكلة البسطيلة الشمالية قائلاً عنها أي أملو :
وما البساطيـل بهــذا البـاب *** إزاءَها إلا ضربٌ من السّـراب!!
وقد قرأنا لشيخنا وصديقنا الراحل وزير التاج قصيدةً فضَّل فيها العصيدة على البسطيلة في القصيدة الطويلة التي نشرتموها في صحيفة “طنجة” الغراء، واستمتعنا بها.
وأحب أن أذكرّ الأخ وطاش بخطأِ، نُفضل، نحن الكتاب، أن نتهم به الطبَّاعين بينما هو من ذاتنا وصنعنا نحن حيث إننا لا نحسن المراجعات!!
لقد سقط بيتٌ في قصيدة)العصيدة( كان هو البيتَ الأساسَ الذي يقصده الشيخ المختار لانتصار العصيدة على البسطيلة!!
فإن يُطعم الفالوذج الحلوَ فتيـةٌ
وبسطيلـةٌ جمـــاعــةٌ مــا يفـرق
فإنـــي بحمد لله عندي عصيـدةٌ
من الذرة الغــراء أوْلـى وأوفـــق
وقبل أن أودعك على طَعم )العصيدة( أرجو أن أقول لك أن كلمة “الفالوذج” تعني حلوى فارسية رفيعة المستوى ما يزالون إلى حد الآن يقدمونها في إيران على ما وقفت عليه، وأنصح لك أن ترجع لتفسير الإمام النّسفي للآية القرآنية الشريفة في سورة المائدة :” يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم…”. متمنياتي لأبنائي بالمزيد من التوفيق والمزيد من التشبث بتراثهم ، فهوالحياة ولا حياة بغير التراث.
وكان جوابنا على هذه الرسالة الكريمة قد نشرناه ضمن هذا الركن تحت عنوان:
إلى العلامة الألمعي “شيخ الطريقة النباشية في الشؤون الدبلوماسية وحوائج الغاشي والحاشية من بلغة وشربيل وشاشية…”.
و من فيض هذه الرسالة الغنية بأطيب المشاعر،وبما لذ وطاب من حديث عن إعداد”الجريدة”، وقصيدة”العصيدة” وأكلة “البسطيلة” ؛ نقتطف مايلي:
شيخي الجليل، إنه لمن دواعي الغبطة والحبور أن تحظى أسرة جريدتنا ببركة من حضرتكم واليوم عيد مسلمين/ ثاني جمعة من شهر شوال الأبرك ؛ كنا ساعتها في مطبخ الحروف بهيئة تحرير الجريدة،كطباخات حادقات منهمكات في إعداد كسكس الصحيفة الذي ستوزع صحون صفحاته الشماء على الأكشاك في اليوم الموالي .هكذا ــ على مدار الأسبوع ــ نقضي الأيام تباعا في تنقية حبوب الحروف وتشييشها وحلحلتها وفتلها وتفويرها وكسكستها وإعادة كسكستها، فسقيها وتمريقها ثم تقديمهاطعاما سائغا للقراء الأصفياء الذين لايبخلون علىصفحات صحيفتهم المفضلة بنورعيونهم.هي ذي مهنةالمتاعب اللذيذة، والتي لا تزيدها لذة ولذاذة سوى نظير هذه الإكرامية التي نفحتمونا إياها أنتــــم، أيها الدبلوماســـي الذواقـة الحكيم، ضمن ظرف سماوي يبعث لونه على التفاؤل وحب الحياة،وهي رسالة غنيــة بالفيتامينات اللفظية المقوية والمرطبات الروحية المنعشة، فكانت تلك الالتفاتة الميمونة التي تحيي بوار النفوس بمثابة إكسيـــر الحياة ،بل هــــي الحياة بعينها (…..).
مرشدي الهادي إلى معالم النبش في تربة تراثنا المغربي الأصيل، لقد فتحتم مغالق شهيتنا بالحديث عن الموائدالتي لاتخلومن فوائد ،وكان لمقولتكم الحكيمة “إن الإنسان إذا لم تحركه “المائدة” التي بين يديه كل يوم لا يستحق أن يكون إنسانا…” بالغ الأثرفي نفوسنا،كمالانخفيكم علما مرشدناالسمح الكريم عن مدى انبساطنا وانشراح سرائرنا حينما وجهتم لنا ــ علىجناح السلامة ــ دعوة حميمية إلى سماط موسوعتكم الفيحاء “التاريخ الدبلوماسي للمغرب” قصدالاستمتاع/ قراءة وتمحيصا بصحــن بسطيلــة أرستقراطية قوامها فراخ حمام محشوة باللوز المهروش أعدته أيادي أندلسية ؛ وإننا بحول الله علىتلبية الدعوة مقبلون وعلىحصن صحن البسطيلة مطبقون، و حين سيتأتىلنا بعون الله اقتحام قلعة البسطيلة الحصينة ،فإننا لامحالة سنعد عدتنا وعتادنا لقطع دابر”المحنشة” و “كعب الغزال”، وبعدالإجهازعلى “المقبلات” من رائب ومرطبات ورطيب حلويات، سيزحف جيشنا الجراربألوية بيضاء لتحريرميدان “المدبرات” الموليات الأدبار عن القوم “المزاليط” من مبخرات ومطبوخات ، ولن يذخرفرسان مائدتنا جهدا في استقصاء أخبار “دمليج زهيرو” من خلال برج مراقبة الشاعر العاشق الولهان الذي أصابه هم وغم بسبب غياب وضياع الدمليج(….)
وستكون لنا بمشيئة الله جولات وصولات مماثلة في رياض الملحون للاستمتاع بعذب كلام موزون؛ وأملنا أن يفلح معول نبشنا في التنقيب عن المزيد من نفائس تراثنا ،المنسية منهاوالمدفونة.
كاد ينسيني اختفاء دمليج زهيروفي اختفاء وسقوط بيت من قصيدةالعصيدة-لأننا،وكما نبهتمونا إليه شيخنا المرشد اللبيب ،في متن رسالتكم الميمونة “لانحسن المراجعات” وهذه من زلات الكتابة ب “الإكسبريس” دون مراجعة تقنية،والتي هي أشبه ما تكون بتلك السرعة المفرطة التي تخلف حوادث سيرمفجعة، يكون ضحاياها غالبا من الأبرياء،هانحن وبفعل تفريطنا في المراجعة وإفراطنا في السرعة ،إبان المرحلةالأخيرة من إخراج الجريدة، قد ارتكبنا حادثة سيرشعرية مهولة “اكصيضة” حقيقية،كانت ضحيتها قصيدة “العصيدة” لوزيرالتاج العلامة المرحوم محمد المختار السوسي،والتي كانت بدون حزام سلامة،فحينما وقع ارتجاج في مدارركبها تزعزعت أشطارها، مما ألحق بعمودها الفقري عاهة، بسقوط إحدى فقراته السفلى، وهو كما نبهتمونا إليه، أيها النطاسي الحكيم “البيت الأساس الذي يقصده الشيخ المختار لانتصار العصيدة على البسطيلة” :
فإن يطعم الفالوذج الحلو فتية *** وبسطيلــة جمَّاعـة مـا يفـــرق
فإني بحمد لله عنــدي عصيــدة *** من الذرة الغــراء أولى وأوفــق
شيخنا ومرشدنا الجليل إن هذاالعبد” النباش”قدارتكب معصية في حق قصيدة”عصيدة”سوسية مدسمة،فرجاؤنا أن نكفر عن ذنبنا بمعالجة متأنية لنصوص صحون بسطيلة فاسية منسمة، وإلى حين دعوة جنابكم لمقبل زردة،فتقبلوامناأزكىالتحيات المضمخة بأريج المحبة ،خلد الله في العالمين بالطيبات ذكركم….