نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (26)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (26) )
السبت 02 أبريل 2016 – 12:31:42
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
قال: إن لي على ابن عبيد اللّه ديناراً ومعي به إشهاد عليه شرعي. فخذي الإشهاد وقدميه إليه فإذا قرأه أنفق عليك مما عنده حتى أحضر ثم ناولها رقعة كتب فيها هذين البيتين:
قالت وقد رأت الأحمال محدجة(1) ……. و البين قد جمع الشكوّ والشاكي
من لي غبت في ذا المحل قلت لها ……. اللّه وابـــــن عـبــيــــد اللّه مـــولاك
فمضت إليه المرأة وحكت له ما قال زوجها وأخبرته بسفره وناولته الرقعة فقرأها وقال: صدق زوجك، وما زال ينفق عليها ويواصلها بالبر والإحسان إلى أن قدم زوجها فشكره على فضله وإحسانه.
لما خطب عمرو بن حجر الكندي إلى عوف بن محلّم الشيباني ابنته أم إياس وأجابه إلى ذلك، أقبلت عليها أمها ليلة دخوله بها توصيها، فكان مما أوصتها به أن قالت:
أي بنيّة إنك مفارقة بيتك الذي منه خرجت وعشك الذي منه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني له أمَة ليكون لك عبداً، واحفظي له خصالا عشراً يكن لك ذخراً.
فأمّا الأولى والثانية: فالرضا بالقناعة وحسن السّمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فالتفقّد عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشمّ أنفه إلاّ أطيب الريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقّد لوقت طعامه ومنامه، فإن شدّة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراز لماله، والإرعاء على حشمه وعياله.
وأمّا التاسعة والعاشرة: فهي لا تعصي له أمراً، ولا تفشي له سراً، فإنك إن خالفت أمره وأغرت صدره، وإن أفشيت سرّه لم تأمني غدره، وإياك والفرح بين يديه إذ كان مهتماً، والكآبة إذا كان فرحا.
فقبلت وصية أمّها فأنجبت له الحارث بن عمرو جدّ امرىء القيس الملك الشاعر.
قالت أعرابية: مسكين العاشق، كلّ شيء عدوّه: هبوب الرياح يقلقه، ولمعان البرق يؤرقه، ورسوم الدار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتذكر يسقمه، والبعد ينحله، والقرب يهيّجه، والليل يضاعف بلاه، والرقاد يهرب منه، ولقد تداويت بالقرب والبعد فلم ينجح فيه دواء، ولا عزّى فيه عزاء، ولقد أحسن الذي يقول:
وقد زعموا أن المحب إذا دنا ……. يملّ وأن االنأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ……. على أنّ قرب الدار خير من البُعد
ولّي رجل مقبل (2) قضاء الأهواز(3)، فأبطأ عليه رزقه، وحضر عيد الأضحى وليس عنده ما يضحّي به ولا ما ينفق، فشكا ذلك إلى زوجته، فقالت له: لا تغتمّ، فإن عندي ديكا جليلاً سمّنته، فإذا كان عيد الأضحى ذبحناه. فلما كان يوم الأضحى، وأرادوا الديك للذبح، طار على سقوف الجيران، فطلبوه. وفشا الخبر في الجيران وكانوا مياسير(4)، فرقّوا للقاضي، ورثوا لقلّة ذات يده، فأهدى إليه كل واحد منهم كبشاً، فاجتمعت في داره أكباش كثيرة، وهو في المصلّى ولا يعلم، فلما صار إلى منزله، ورأى ما فيه من الأضاحي قال لا مرأته: من أين هذا؟
قالت: أهدى إلينا فلان وفلان ـ حتى سمّت جماعتهم ـ ما ترى.
قال: ويحك! احتفظي بديكنا هذا فما فدي إسحاق بن إبراهيم (5) إلا بكبش واحد، وقد فدي ديكنا بهذا العدد.
قيل: سأل رجل حاتماً الطائي فقال: يا حاتم هل غلبك أحد في الكرم؟
قال: نعم غلام يتيم من طيء نزلت بفنائه، كانت له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه، وأصلح من لحمه، وقدّم إليّ، وكان فيما قدّم إليّ الدماغ، فتناولت منه فاستطبته فقلت: طيّب واللّه. فخرج من بين يدي، وجعل يذبح رأساً رأساً، ويقدم إليّ الدماغ وأنا لا أعلم. فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً، وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره. فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: يا سبحان اللّه تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسبّة(6) على العرب قبيحة.
قيل: يا حاتم: فما الذي عوّضته؟
قال: ثلاثمائة ناقة حمراء، وخمسمائة رأس من الغنم.
فقيل: أنت إذن أكرم منه.
فقال: بل هو أكرم، لأنه جاد بكل ما يملكه وإنّما جدت بقليل من كثير.
قيل: إن أعرابياً صاد سِنّوراً فلم يعرفه، فتلقّاه رجل فقال: ما هذا السنّور؟ ولقي آخر فقال: ما هذا الهرّ؟ ثم لقي آخر فقال: ماهذا القطّ؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيطل؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الدّم؟
فقال: أحمله وأبيعه لعلّ اللّه تعالى يجعل لي فيه مالاً كثيراً. فلمّا أتى به إلى السوق قيل له: بكم هذا؟
فقال: بمائة.
فقيل له: إنه يساوي نصف درهم.
فرمى به وقال: لعنه اللّه، ما أكثر أسماءه وقلّ ثمنه.
قال الخليل: الرجال أربعة:
رجل يدري أنه يدري، ذلك هو العالم، فسلوه.
ورجل يدري ولايدري أنه يدري، فذلك الناسي فذكّروه.
ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فذلك جاهل فعلّموه.
ورجل لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فذلك الأحمق فارفضوه.
قال أحدهم لحبيبه:
لك الثلثان من قلبي ……. وثُلثا ثُلثه الباقي
وثٌلثا ثُلث ما يبقى ……. وثُلث الثُلث للساقي
وتبقى أسهم ستٌ ……. تُقسّم بين عشّاقي
فانظر إلى هذا الشاعر وبلاغته وتحسين عبارته، كيف أغمض كلامه وقسّم قلبه وجعله مجزءاً على أحد وثمانين جزءاً هي مضروب ثلاثة وثلاثة، ليصحّ منها مخرج ثلث ثلث الثلث، فجعل لمن خاطبه أربعة وسبعين جزأ من قلبه، وجعل للساقي جزأ وبقيت الستة أجزاء ففرّقها فيمن يحبّ.
قيل: كان حويطب بن عبد العزى قد بلغ عشرين ومائة سنة، ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام.
فلما ولي مروان بن الحكم المدينة، دخل عليه حويطب فقال له مروان:
ما سنك؟ فأخبره.
فقال له: تأخر إسلامك أيها الشيخ حتى سبقك الأحداث.
فقال: واللّه، لقد هممت بالإسلام غير مرّة، وكان يعوقني أبوك عنه، وينهاني، ويقول: أتدع دين آبائك لدين محدث؟
قال: فسكت مروان، وندم على ما كان منه.
روى صاحب الأغاني أن بنت حاتم الطائي كانت في نساء سباها المسلمون، فلما طلبها أحدهم إلى النبي (ص) قالت:
يا محمد، هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عنّي، فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيّد قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضعيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، ثم هتقت في عزّة وإباء: أنا بنت حاتم الطائي.
ففاضت نفس النبي ثائراً وقال لها:
يا جارية هذه صفة المؤمن، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، واللّه يحب مكارم الأخلاق.
قيل للخنساء: صفي لنا أخويك صخراً ومعاوية.
فقالت: كان صخر جنة الزمان الأغبر، وزعاف الخميس الأحمر، وكان معاوية القائل الفاعل.
فقيل لها: فأيهما أسخى وأفخر؟
قالت: أما صخر فحر الشتاء، وأما معاوية فبرد الهواء.
قيل لها: فأيهما أوجع وأفجع؟
قالت: أمّا صخر فجمر الكبد، وأمّا معاوية فسقام الجسد.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحدجة: المحملة.
(2) المقل: الفقير الحال.
(3) الأهواز: إقليم في فارس.
(4) المياسير: الأغنياء.
(5) المعروف أن المفدى هو إسماعيل بن إبراهيم وليس إسحاق.
(6) السبة: العار…