الصحة و العافية في حياة الإنسان
جريدة طنجة – عمر محمد قرباش ( آراء )
الخميس 28 أبريل 2016 – 12:46:12
وفي الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نُصِحَّ لك جسمك ، ونروِّك من الماء البارد ” ، فهذه النعمة قد يبدو الحديث عنها غريباً بعض الشيء ، لأن الصحة والعافية أمر صرنا نعده من المسلمات ، وصرنا لا نلتفت إليه فلا نذكر هذه النعمة إلا عند المرض ، ولذلك نبهنا النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى ذلك في حديث يقول فيه : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) معنى الغبن: عدم معرفة القيمة ، لا تعرف قدر ما عندك ، لا تعرف قيمة ما تملك ، أي: لا يعرف كثير من الناس قدر كل واحدة من هتين النعمتين فهو يُغبن ، لأننا لا نعرف قدر الصحة ، ونظن أن الإنسان ولد هكذا ويبقى هكذا إلى أن يموت هكذا كما هو، قوي شديد صحيح بريء من الأسقام والعلل .
فالصحة في الأبدان نعمة عظيمة وذلك لأن الإنسان إذا رزقه الله صحة في بدنه ؛ فإنه بذلك يتمكن من أن يعبد ربه ، ومن أن يتقلب في حاجته ، ومن أن يذهب ويجيء ، ومن أن يكتسب من المال ما أحله الله ويسافر ويجيء ويذهب ؛ كل ذلك لأجل أن الله -تعالى- رزقه هذه الصحة ، وهذه القوة في بدنه ، يعرف قدرها من فقدها ، فالإنسان إذا مرض يوما ولزم الفراش ، عرف نعمة الصحة ، تمنى وسأل ربه أن يرزقه عافية في بدنه ، وصحة في بدنه ، وأن يرد إليه صحته ، ونعمته التي هي من أعظم النعم ، قال صلى الله عليه وسلم : ” سلوا الله العفو والعافية ، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية ” ، وذلك لأن صلاح الإنسان لا يتم إلا باليقين والعافية ، فاليقين يدفع عن المؤمن ما يضر بدينه ، والعافية تدفع عنه ما يضر بقلبه وبدنه من الأمراض والآفات ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من سؤال ربه الصحة والعافية فيقول: ” اللهم عافني في بدني ، اللهم عافني في سمعي ، اللهم عافني في بصري ، لا إله إلا أنت». يعيدها ثلاثا حين يصبح ، وثلاثا حين يمسي ” .
كيف لا وبالصحة يعيش الإنسان سعيدا ، ويحيا عزيزا حميدا ، وبها يسعى لطاعة ربه ، وينفع نفسه وأهله ، ويخدم مجتمعه ووطنه ، فيجمع الخير من أطرافه ، و إذا أراد المرء أن يعرف قيمة تلك النعمة العظيمة فليذهب إلى المستشفيات ، و ما أشبهها ، ولينظر إلى الراقدين على الأسرة ، والمصابين بأنواع من الأمراض الجسدية ، وجدت هذا يشتكي رأسه ، وهذا يشتكي بطنه ، وهذا يشتكي ظهره ، وهذا مريض مرضا مقعدا ، وهذا قد أغمي عليه ، وهذا قد فقد إحساسه ، وما أشبه ذلك ، وهم يتمنون أن يكونوا في كامل صحتهم وعافيتهم ، فتعرف أنك في نعمة عظيمة ؛ حيث إن الله -تعالى- متعك بالقوة ، متعك بالصحة ، متعك بالرفاهية ، متعك بهذه القوة ، ولا تحس مرضا ، لا تحس ألما في شيء ، فهؤلاء المرضى لو أنهم خُيروا بين أموال الدنيا وسلامة الجسد ، لاختاروا بلا شك نعمة الصحة والعافية من المرض . جاء رجل إلى يونس بن عبيد –رحمه الله- يشكو ضيق حاله ، فقال له : ” أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم؟ قال الرجل:لا، قال: ” فبيديك مائة ألف ؟ قال الرجل : لا ، قال:” فبرجليك ؟ قال الرجل : لا ، فذكره يونس بن عبيد -رحمه الله-بنعم الله عليه ، ثم قال له :” أرى عندك مئين ألوف ، وأنت تشكو الحاجة ” .
لذا فإن نعمة الصحة مِنَّة جليلة وعطية كريمة ، فقد حثنا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام على استغلال تلك النعمة في طاعة الله ورسوله فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (بادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا ، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ، أَوْ الدَّجَّالَ ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ ” .
إذن.. فهذه من النعم ، فكيف يكون شكرها ؟ شكر هذه النعم أن تستعمل بدنك في طاعة الله وألا تستعمله في معصيته ؛ فإن هذا من كفر النعم ، حري أن يسلب الله -تعالى- من عصاه و أن يسلبه ما أعطاه ، وما تفضل به عليه من هذه القوة ، وهذه البنية ، فالذي يؤدي الصلوات بركوعها ، وسجودها ، و قيامها ، وقعودها ، وخشوعها ، وإخباتها ، قد شكر نعمة القوة ، والذي يكتسب مالا حلالا ، ثم يؤدي حقوق ذلك المال ، وينفق منه في وجوه الخير.. يعلم أن الله -تعالى- قواه على هذا الاكتساب ، فيؤدي حقه ، فيكون بذلك ممن شكر نعمة الله ، أي نعمة القوة ، وكذلك الذي يصوم ، ويصلي، ويحج ، ويعتمر، ويجاهد ، وينصح ، ويدعو إلى الله -تعالى- ويتقلب في حاجات المسلمين ، وينفع المسلمين بما يقدر عليه ، يعتبر هذا ممن شكر نعم الله نعمة العافية ، نعمة الصح.. يقول وهب بن منبه –رحمه الله-:” رؤوس النِّعم ثلاثة ؛ فأولها: نعمةُ الإسلام التي لا تتمُّ نعمُه إلا بها، والثانية: نعمةُ العافية التي لا تطيبُ الحياةُ إلا بها ، والثالثة : نعمة الغنى التي لا يتمُّ العيشُ إلا به” .
إنَّ الصحة والعافية وسلامة القوى والحواس هذه نعَم عظيمة ينبغي أن يكون العبد مستشعرًا لها وأن يكون كل يوم حامدًا لله سبحانه وتعالى على هذه النعم كما قال عليه الصلاة والسلام : (( كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ )) ، كل يوم تطلع فيه الشمس تفكَّر في هذه الحواس وهذه القوى وهذه الأعضاء وهذه الحركة السهلة السلسة ؛ فتحمد الله سبحانه وتعالى على الأعضاء كلها قال ((على كل سلامى)) كل مفصل من مفاصلك وعددها ثلاثمائة وستين كما جاء في بعض الأحاديث ، والمراد في هذا الحديث جميع أعضاء جسم الإنسان ومفاصله ، وجاء في الحديث الآخر عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)) .
فأمر العافية والصحة للأبدان أمر عظيم ليس بالهين ، فينبغي علينا أن نستشعر كل يوم عظيم نعمة الله وواسع فضله ومنَّته جل في علاه بالعافية والصحة ، ونشكر الله سبحانه وتعالى على هذه المنة والنعمة العظيمة .
وإذا أراد المسلم أن يحفظ له هذه النعمة فعليه أن يحفظ أوامر الله ، وقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك) ، أي احفظ أوامر الله ونواهيه ، يحفظ الله جوارحك من التلف والعطب ومن كل مكروه وبلية ، قال ابن رجب : مَنْ حفظ الله في صباه وقوته ، حفظه الله في حال كبَره وضعف قوته ، ومتَّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله ، وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله ، فوثب يوماً وثبةً شديدةً فعوتب في ذلك ، فقال : هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغَر فحفظها الله علينا في الكبَر.
ومما يحفظ لنا نعمة الصحة أن نشكر الله عليها ، ونثني بما هو أهله يقول سبحانه وتعالى ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾، وجاء في حديث أنس – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله ليَرضى عن العبد أن يأكل الأَكلة ، فيَحمده عليها ، أو يشرب الشَّربة ، فيحمده عليها))؛ وكان من هدي المصطفى أن يسأل ربه العافية في الدنيا والآخرة ، وأن يسأله سلامة الأعضاء ، وعافية البدن ، وقوة الجسد ، جاء في الحديث عن جُبير بن مُطْعِم قال: سمعت ابن عمر يقول: لم يكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يَدَعُ هؤلاء الدعوات حين يُمسي وحين يُصبح ” اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودُنْياي ، وأهلي ، ومالي، … ” ، ولأن المسلم يمكنه بالصحة وسلامة أعضائه أن يكسب الأجور، ويرتقي الدرجات ويزداد من الخير، وينفع أبناء مجتمعه ووطنه ، بخلاف من أصيب في بدنه وعافيته ، وأعيق عن أداء العبادات على الوجه المطلوب ، من هنا فقد حثنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على العناية والاهتمام بحق البدن . وقد قال لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد أرهق نفسَه بالعِبادة صيامًا وقيامًا: صُمْ وأفْطِرْ وقُمْ ونَمْ ، فإنّ لبدنِك عليك حَقًّا وإنّ لعينِك عليك حقًّا “.
و قد عد الصحة أمانة سنسأل عنها يوم القيامة ، يقول عليه الصلاة و السلام : ” لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن علمه فيم فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه ” .
فما أجمل أن يغتنم الإنسان نعمة الصحة ، فينفق ويتصدق ، ويبذل المعروف ، ويفعل الخير، ويحسن إلى نفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه وقيادته ، فإن ذلك من أفضل الأعمال وأعظم القربات ، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أي الصدقة أعظم أجرا ؟ فقال: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى ” ، فعلى المرء الذي رزقه الرحمن نعمة الصحة والعافية في الأبدان ، أن يستثمرها ويغتنمها في طاعة المنان ، قبل فوات الأوان .
لأن الجزاء من جنس العمل! فمن حفظ جوارحه واستغل صحته فيما يرضي ربه جل جلاله ، رجع عليه نفع ذلك يوم يقف أمام خالقه ، بل إن الله جل وعلا من كرمه سيحفظ له قوته عند كبره وتقدم سنه.