نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (24)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (24) )
الأربعاء 09 مارس 2016 – 13:46:00
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
هذا الإِسكندر الذي كان يخبىء الذهب فصار الذهب يخبئه.
وقال الحكيم الثالث: ما أزهد الناس في هذا الجسد، وأرغبهم في هذا التابوت.
وقال الحكيم الرابع: من أعجب العجب أن القوي قد غُل بِ، والضعفاء لاهون مغتروُّن.
وقال الخامس: ياذاالذي جعل أجله ضماناً، وجعل أمله عياناً، هلا باعدت من أجلك، لتبلغ بعض أملك، هلا حققت من أملك بالامتناع عن فوات أجلك؟
وقال السادس: أيها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عن الاحتياج، فغودرت عليك أوزاره وفارقتك أيامه، فمغناه لغيرك، ووباله عليك.
وقال السابع: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك، فمن كان له عقل فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر.
وقال الثامن: ربُ هائب لك كان يغتابك من ورائك، وهو اليوم بحضرتك لا يخافك.
وقالى التاسع: رب حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك اذ لا تتكلم.
وقال الع اِشر: كم أماتت هذه النفس لئلا تموت، وقد ماتت.
وقال الحادي عشر، وكان صاحب خزانة كتب الحكمة: قد كنت تأمرني أن لاأبعد عنك، فاليوم لا أقدر على الدنو منك.
وقال الثاني عشر: هذا اليوم عظيم العبر، أقبل من شره ما كان مدبرا، وأدبر من خيره ما كان مقب ؟ًال فمن كان باكياً على م نَ زال ملكه فليبك.
وقال الثالث عشر: يا عظيم السلطان اضمْ حَ لًّ سلطانك كما اضمحل ظل السحاب، وع فَت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب.
وقال الرابع عشر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً، ليت شعري كيف حالك فيما احتوى عليك منها؟
وقال الخامس عشر: أعجب لمن كانت هذه سبيله كيف شرهت نفسه بجمع الحطام البائد والهشيم الهامد.
وقال السادس عشر: أيهما الجمع الحافل والملتقى الفاضل، لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذته فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغي والفساد.
وقال السابع عشر: أنظروا إلى حلم النائم كيف انقضى؟ وظل الغمام كيف انجلى؟
وقال الثامن عشر: وكان من حكماء الهند: يا من كان غضبه الموت على غضبت على الموت؟
وقال التاسع عشر: قد رأيتم أيها الجمع هذا الملك الماضي فليتعظ به الآن هذا الملك الباقي.
وقال العشرون: هذا الذي دار كثيراً والآن يقر طويلاً.
وقال الحادي والعشرون: إن الذي كانت الآذان تنصتِ له قد سكت، فليتكلم الآن كل ساكت.
وقال الثاني والعشرون: سيلحق بك م نَ س رَ هَّ موت كُ كما لحقت بمن سرك موته.
وقال الثالث والعشرون: مالك لا ت قُ لُِّ عضواً من أعضائك، وقد كنت تستقل ملك الأرض؟ بل ما لك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان الذي أنت به، وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد؟
وقال الرابع والعشرون: وكان من نس اّك الهند وحكمائها: إن الدنيا يكون هكذا آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها.
وقال الخامس والعشرون: وكان صاحب مائدته: قد فُرِشت النمارق، ون ضُدت الوسائد وه يُئت الموائد، ولا أرى عميد المجلس.
وقال السادس والعشرون: وكان صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالجمع، وا دِإلخار فإلى من أدفع ذخائرك؟
وقال السابع والعشرون: وكان خازناً من خزانه: هذه مفاتيح خ زِائنك، فمن يقبضها قبل أن أوخذ بما لم آخذ منها؟
وقال الثامن والعشرون: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طُوِيت منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب.
أمّــا القول التاسع والعشرن فقول زوجته روشنك بنت دارا بن دارا ملك فارس: ما كنت أحسب أن غالب دارا الملك يغلب، وإن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شماتة فقد خلف الكأس الذي تشرب به الجماعة.
القول الثلاثون ما يحكى عن امه أنها قالت حين جاءها نعيه: لئن فقد من ابني أمره، فما فقدت من قبلي ذكره.
مات الإسكندر وهو ابن ست وثلاثين سنة وملك وهو ابن احدى وعشرين سنة وذلك بمقدونية، وهي مصر، وعهد إلى ولي عهده بطليموس بن أريت أن يحمل تابوته إلى والدته بالإسكندرية وأوصاه أن يكتب إليها إذا أتاها نعيه أن تتخذ وليمة وتنادي في مملكتها أن لا يتخلف عنها أحد، وأن لا يجيب دعوتها من قد فقد محبوبا أو مات له خليل، وليكون ذلك مأتم الإسكندر بالسرور، خلاف مأتم الناس بالحزن، فلما ورد نعيه إليها ووضع التابوت بين يديها نادت في أهل مملكتها على ما به أمرها، فلم يجب أحد دعوتها، ولا بادر إلى ندائها، فقالت لحشمها.
ما بال الناس لم يجيبوا دعوتي؟
فقالوا لها: أنت منعتيهم من ذلك.
قالت: وكيف؟
فقيل لها: أمرت أن لا يجيبك من فقد محبوبا، أو عدم خليلا، أو فارق حبيبا، وليس فيهم أحد إلا وقد أصابه بعض ذلك.
فلما سمعت ذلك استيقظت وعلمت ما به سئلت وقالت:
«لقد عزاّني ولدي أحسن العزاء»
تكلّم ابن السماك يوما وجارية له تسمع. فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟
قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده!
قال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه.
قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد مله مفهمه.
عن ابن القاسم قال:
بينما سليمان بن داود عليهما السلام تحمله الريح إذ مر بنسر واقع على قصر، فقال له:
كم لك مذ وقعت ها هنا؟
قال: سبعمائة سنة.
قال: فمن بنى هذا القصر؟
قال: لا أدري، هكذا وجدته. ثم نظر فإذا فيه كتاب منقور بأبيات من شعر وهي (1):
فمن يسأل عن القصر ….. فمبنياً وجدنـــــاه
فلا تَصحب أخا السوء ….. إيـــّـــاك و إيـّــاه
فكم من جاهــل أردَى ….. حَكيمــًا حين آخاه
يُقـــاس المرء بالمــــرء ….. إذ ما المرءُ ماشـــاه
وفي النّاس من النـــّاس ….. مقـــاييس وأشبـــاه
وفي العين غني للعين ….. أن تنطق أفواه
في بعض الحديث أن إبراهيم خليل الرحمان كان من أغير الناس، فلما حضرته الوفاة دخل عليه ملك الموت في صورة رجل أنكره فقال له: من أدخلك داري؟
قال: الذي أسكنك فيها منذ كذا وكذا سنة.
قال: ومن أنت؟
قال: أنا ملك الموت جئت لقبض روحك.
قال: أتركني أنت أودع ابني إسحاق؟
قال: نعم.
فأرسل إلى إسحاق، فلما أتاه أخبره، فتعلق إسحاق بأبيه وجعل يتقطع عليه بكاء، فخرج عنهما ملك الموت وقال: يا رب ، ذبيحك إسحاق متعلق بخليلك!
فقال له الله: قل له إنّي أمهلتك. ففعل، وانحلّ إسحاق عن أبيه، ودخل إبراهيم بيتا ينام فيه، فقبض ملك الموت روحه وهو نائم.
قال يحيى بن عبد العزيز بإسناده عن وهب بن منبه:
نصب رجل من بنــي إسرائيل فخــًا فَجــاءت عُصفــورة فوَقعت عليه فقالت: ما لي أراك مُنحنيـًا؟
قال: لكثرة صلاتي انحنيت.
قالت: فما لي أراك بادية عظامك؟
قال: لكثرة صيامي بدت مظامي.
قالت : فما أرى هذا الصوف عليك؟
قال: لزهادي في الدنيا لبست الصوف.
قالت: فما هذه العصا عندك؟
قال: أتوكأ عليها وأقضي بها حوائجي.
قالت: فما هذه الحبة في يديك؟
قال: قربان إن مر بي مسكين ناولته إياه.
قالت: فإني مسكينة.
قال: فخذيها. فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فجعلت تقول: قعي قعي! .
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وردت هذه الأبيات في ثلاثة مواضع من «عيون الأخبار » منسوبة إلى أبي العتاهية ولم نجدها في ديوانه..