نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (23)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (23) )
الثلاثاء 01 مارس 2016 – 13:21:00
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
فقال: الأمير أخطب منيّ إذ ترعّد ووعد، وأعطى ومنع، وبرق ورعد، وأنا أخطب منه في الوفادة وفي الثناء والتجير، وأنا أكذب إذا خطبتُ، فأخشو كلامي بزيادة مليحةٍ شهيّة، والأمير يقصد إلى الحقّ وميزان العدل، ولا يزيد فيه شعيرة ولا ينقص منه.
فقال له زياد: قاتلك اللّه، لقد أجدّت تخليص صفتك وصفتي من حيث أعطيت لنفسك الخطابة كلّها وأرضيتني وتخلّصت.
ثم التفت إلى أولاده وقال: هذا لعمركم البيان الصريح.
قال أحدهم: سافرت مرّة إلى الشام عن طريق البرّ ومعي أعرابي استأجرت منه مركبي(1) ومضّني طول السّفر، وبطء الدابة فأخذت أسلّي نفسي بقول القطامي:
قد يدلك المتأنّي بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل فقال الأعرابي: ما زاد قائل هذا الشعر على أن يثبّط الناس عن الحزم وكان أولى به أن يزيد:
وربّما ضرّ بعض الناس بطؤهم وكان خيراً لهم لو أنهم عجلوا
فقلت: أناشدك اللّه أن تقنع حمارك بهذا الرأي لعلّه يسرع.
كان الحريري دميماً قبيح المنظر، وجاءه رجل يوما ليأخذ عنه، فاستزرى ما رأى من حقارة شكله ودمامة وجهه، ولمّا التمس منه أن يملي عليه، وقد أدرك الحريري ما كان يدور في خلده قال له: أكتب:
ما أنت أول سارٍ غرّة قمر ….. ورائد أعجبته خضرة الدّمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجلٌ ….. مثل المعيديّ فاسمع بي ولا ترني
فخجل الرجل وانصرف.
كان في لسان ابن مُقلة الكاتب لثغة بالراء كلثغة واصل بن عطاء، وأراد أحدهم مرّة أن يُحرجه فطلب منه أن يقرأ أمام أحد الأمراء الرّقعة التالية:
أمر أمير الأمراء بأن تحفر بئر على قارعة الطريق ليشرب منها الشارب والوارد فكره أن يظهر ما في لفظه من عيب فقرأ كما يلي:
حكم حاكم الحكّام بأن يجعل جُبّ على حافة الوادي ليستقي منه الغادي والبادي.
أقبل الحطيئة الشاعر في ركب من بني عبس حتى بلغ المدينة، فأقام فيها مدّة، فقال له أصحابه يوماً: لقد أملقنا، فلو وجدت لناشريفاً في هذه البلدة يقرينا، فأتى خالد بن سعيد بن العاص، فاعتذر، فتركه ولم يعد الكلام فارتاب به خالد، فأرسل يسأل عنه، فأخبر أنه الحطيئة، فاستعاده، فقعد الحطيئة لا يتكلّم، فأراد خالد أن يستفتحه الكلام فقال له:
من أشعر الناس؟
قال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتّق الشتم يشتم
فقال خالد لبعض جلسائه: هذه بعض عقاربه، وأمر للحطيئة بما أرضاه.
كان لحنظلة النميري ابن عاق يقال له مرّة. فقال له يوماً: إنك لمرّ يا مرّة، قال: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة.
قال إنك خبيث كاسمك.
قال: أخبث منّي من سمّاني.
قال: كأنك لست من الناس.
قال: من أشابه أباه فما ظلم.
قال: ما أحوجك إلى أدب.
قال: الذي رباني أحوج منّي.
قال: عقمت أم ولدتك.
قال: إذا ولدت من مثلك.
قال: كنت شؤوماً على أخوتكدفنتهم وبقيت.
قال: أعجبني كثرة عمومتي.
قال: لا يجنى من الشوك العنب
خرج حاتم الطائي في الشهر الحرام يطلب حاجةً، فما كان في أرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة، أكلني الإسار(1) والقمل.
قال: ويلك، واللّه ما أنا في بلاد قومي، وما معي شيء، وقد أسأت إليّ إذ نوّهت باسمي وما لك مترك.
وساوم العنزيين فاشتراه منهم وقال: خلّوا سبيله وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أُؤدي فداءه. ففعلوا، فأُتيَ بفدائه.
قال الأصمعي: بينما أنا في طرف البصرة رأيت كنّاسا يعمل وهو يردّد:
فايّاك والسكنى بمسكن ذلّةٍ ….. تعدّ مسيئاً فيه إن كنت مُحسنا
فنفسك أكرمها وإن ضاق مسكنٌ ….. عليك بها فاطلب لنفسك مسكنا
فقلت له: واللّه ما يقي عليك من الهوان شيء إلاّ وقد أهنتها فيه. فماذا أبقيت لها من الكرامة وأنت كنّاس؟
فنظر إليّ نظرة المنكر وقال: واللّه لكنسُ ألف كنيفٍ أحسن من القيام ساعةً على باب مثلك.
رُوى أن رجلاً جاء خياطاً بثوبٍ ليقطع منه قميصاً، فقال له: واللّه لأُفضّلنّه لك تفصيلاً لا يُدرى أقميص هو أم قباء. ففعل ذلك، فقال له صاحب الثوب: وأنا واللّه لأدعون لك دُعاءً لا يُدرى ألك هو أم عليك. وكان الخيّاط أعور ويُدعى بِشراً، قال:
خاط لي بشرٌ قباءْ ليت عينيه سواءْ
فقال له بشر: ولكل امرءٍ ما نوى.
للعرب في الغيلان أخبار طريفة.
العرب يزعمون أن الغول يتغوّل لهم في الخلوات، ويظهر لخواصّهم في أنواع من الصور، فيخاطبونها وربّما ضيّفوها، قد أكثورا من ذلك في أشعارهم وبالأخص تأبط شرّاً. ويزعمون أن رجليها رجلا عنز وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون ويقولون:
يا رجل عنز انهقي نهيقا ….. لن نترك السبسب والطريقا
الغول تتلون وتضلل:
وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي وأوقات الخلوات، فيتوهمن أنها إنسان فيتبعونها، فتزيلهم عن الطريق التي هم عليها، وتتيههم. وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه، فلم يكونوا يزولون عما كانوا عليه من القصد، فإذا صيح بها على ما وصفنا شردت عنهم في بطون الأودية ورءوس الجبال.
وقد ذكر جماعة من الصحابة ذلك، منهم عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه أنه شاهد ذلك في بعض أسفاره إلى الشام، وأن الغول كانت تتغول له، وأنه ضربها بسيفه، وذلك قبل ظهور الإسلام، وهذا مشهور عندهم في أخبارهم.
وقد حكي عن بعض المتفلسفين أن الغول حيوان شاذ من جنس الحيوان مُشَوَّه لم تحكمه الطبيعة، وأنه لما خرج منفرداً في نفسه وهيئته توحش من مسكنه، فطلب القفار، وهو يناسب الإنسان والحيوان في الشكل.
وزعمت طائفة من الناس أن الغول اسم لكل شيء يعرض للمسافرين، ويتمثّل في ضروب من الصور، ذكراً كان أو أنثى، إلا أن اكثر كلامهم على أنه أنثى.
وكانت العرب قبل الاسلام تزعم أن الغيلان توقد بالليل النيران للعبث والتحيّل واخلال السابلة…
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإسار: الأسر.