نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (22)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (22) )
الإثنين 29 فبراير 2016 – 18:37:54
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
وقدم على يزيد بن حاتم، فجلس في مجلسه من الناس، فدعا يزيد بعض غلمانه وأسرّ له بشيء، فقام أشعب فقبّل يده، فقال له: ولم فعلت هذا؟ قال: رأيتك أسررتَ إلى غلامك بشيء فعلت أنك قد أمرت لي بصلة، فضحك منه وقال: ما فعلمت ولكني أفعل، وأمر له بصلة.
وحكى المدائني عن جهم بن خلف قال: حدثني رجل قال: قلت لأشعب: لو تحدثت عندي العشية، قال: أكره أن يجيء ثقيل، قلت: ليس غيرك وغيري، قال: فإذا صليت الظهر فأنا عندك، فصلى وجاء، فلما وضعت الجارية الطعام، إذ صديق لي يدق الباب، قال: ألا ترى؟ قد صرت إلى ما أكره، قلت: إن لك عندي فيه عشر خصال، قال: فما هي؟ قلت: أولها أنه لا يأكل مع ضيف، قال: التسع خصال لك؛ أدخله.
لما دخل صاعد البغدادي مدينة دانية وحضر مجلس الموفق مجاهد بن عبد اللّه العامري، أمير البلد، كان في المجلس أديب يقال له بشار، فقال للموفق مجاهد: دعني أعبث بصاعد، فقال له مجاهد: لا تتعرض إليه فإنه سريع الجواب، فأبى إلا مشاكلته، فقال: له بشار، وكان أعمى: يا أبا العلاء، فقال: لبيّك، فقال: ما الجرنفل في كلام العرب؟ فعرف أبو العلاء أنه قد وضع هذه الكلمة وليس لها أصل في اللغة، فقال له بعد أن أطرق ساعة: هو الذي يفعل بنساء العميان ولا يفعل بغيرهن، ولا يكون الجرنفل جرنفلاً حتى لا يتعداهن إلى غيرهم، وهو في ذلك كله يصرح ولا يكني، قال: فخجل بشار وانكسر، وضحك من كان حاضراً، فقال له الموفق: قلت لك لا تفعل فلم تقبل.
سئل الأحنف بن قيس عن الحِلم ما هو فقال: هو الذل مع الصبر. وكان يقول إذا عجب الناس من حمله: إني لأجد ما تجدون، لكني صبور. وكان يقول: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال. وكان يقول: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري، لأنه قتل ابن أخ له بعض بنيه فأوتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى، ثم أقبل على الفتى فقال: يا بني، بئس ما صنعت: نقصت عددك وأوهنت عضدك وأشمتّ عدوّك وأسأت بقومك؛ خلوا سبيله، واحملوا إلى أم المقتول ديته فإنها غريبة. ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه.
دخل أعرابي يوماً بلا استئذان على معن بن زائدة أيام إمارته وابتدره بقوله:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة …. وإذ نعلاك من جلد البعير
فقال معن : نعم أذكر ذلك ولا أنساه.
فقال الأعرابي :
فسبحان الذي أعطاك ملكاً …. وعلمك الجلوس على السرير
قال سبحانه على كل حال.
فقال:
فلست مسلما ً إن عشت دهراً …. على معن بتسليم الأمير
قال : السلام سنة تأتي بها كيف شئت .
فقال:
أمير يأكل الفالوذج سراً …. ويطعم ضيفه خبز الشعير
قال: الزاد زادنا نأكل ما نشاء ونطعم ما نشاء.
فقال:
سأرحل عن بلاد أنت فيها …. ولو جار الزمان على الفقير
قال:
إن جاورتنا فمرحبا بك …. وإن رحلت عنا فمصحوب بالسلامة.
فقال :
فجُد لي يا ابن ناقصة بشيء …. فإني قد عزمت على المسير
.
قال: أعطوه ألف درهم .
فقال:
قليل ما أتيت به وإني …. لأطمع منك بالمال الكثير
.
قال: أعطوه ألفاً آخر.
فتقدم الأعرابي يقبل الأرض بين يديه،
وقال:
ما جئتك والله أيها الأمير …. إلا مختبراً حِلمك لما اشتهر عنك،
فألفيت فيك من الحِلم …. ما لو قسم على أهل الأرض لكفاهم جميعاً.
سألت الله أن يُبقيك ذخراً …. فما لك في البرية من نظير
فقال معن :
أعطيناه على هجونا ألفين …. فأعطوه على مديحنا أربعة.
سئل أحد الظرفاء إلى أين؟
قال: إلى السوق لأشتري حماراً.
فقيل له: قل إن شاء اللّه.
قال: الدراهم في جيبي والحمير في السوق؟
فلما ذهب سرقت منه الدراهم، فعاد حزيناً، فقيل له: ماذا فعلت؟
قال: سرقت الدراهم إن شاء اللّه.
قال رجل لجرير: من أشعر الناس؟
فقال: قم لأعرّفك الجواب. فأخذ بيده إلى رجل اعتقل عنزةً بين رجليه وجعل يمصّ ضرعها. فصاح به جرير، فرفع رأسه، فإذا هو شيخ دميم السحنة، رثّ الهيئة، وقد سال لبن العنزة على لحيته، فقال جرير لصاحبه: أتعرف من هذا؟!
قال: لا.
قال: هذا أبي، واسم عطيّة. وهل تدري لماذا يمصُّ ضرع العنزة؟
قال: لا.
قال: بخلاً وخسّةً، فإنه يخاف أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن.
ثم قال: أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعراً وقارعهم ففلّهم جميعاً.
أراد أحد الشعراء الدخول على معن بن زائدة وهو في أحد البساتين، فحيل دونه وطال انتظاره فلم يتهيّأ له ما يريد.
واتّفق أن الماء كان يدخل البستان في قناةٍ تمرّ تحت سوره، فكتب الرجل هذا البيت من الشّعر على خشبة وألقاها في الماء فحملها إلى داخل البستان:
أيا جود معن ناج معناً بحاجتي …. فما لي إلى معن سواك شفيعُ
وصادف أن كان معه جالساً قرب الماء، فشاهد الخشبة وقرأ ما عليها، فقال: من صاحب هذا؟
فدعي الرجل، فقال له: ماذا كتبت؟
فأنشده البيت.
فقال له: بورك بك وبشفيعك. وأمر بألف درهم فحملها وانصرف.
قُدم الكامخ لأعرابي فلم يستطبه فقال: ما هذا؟!
قالوا: كامخ.
قال: ومن أيّ شيء صنع؟
قالوا: من الحنطة واللبن.
قال: أبوان كريمان ومن أنجبا.
ودخل المسجد والإمام في الصلاة يقرأ «حُرّمت عليكم الميتة ولحم الخنزير» فقال له الأعرابي: والكامخ لا تنسهُ، أصلحك اللّه..
(يتبع)