نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (20)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (20) )
الجمعة 19فبراير 2016 – 18:39:55
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
قال علي بن محمد بن عبد الكريم: لما صار إلينا أبو تمام قادما من مصر عمل قصيدته التي أولها:
فاتصل خبرها بعتبة بن عصيم الذي يهجوه أبو تمام، وهو كلبي من قضاعة، وكان أديباً شاعراً، فأحب أن يسمع هذه القصيدة من أبي تمام، فقال لمن حضر: إيتوني به، فجاءوا به فأنشده إياها، فلما فرغ قال: أحسنت يا غلام على صغر سنك، فسكت أبو تمام وقال: يا عم أنشدني من شعرك، فأنشده قصيدة، فلما فرغ قال: يا عم ما أحسنت على كبر سنك، فقال عتبة لبني عبد الكريم أخرجوا هذا من بلدنا فليس يصلح أن يقيم في بلدنا.
وقال أبو جعفر الهروي: كنت مع حاتم مرّة وقد أراد الحج، فلما وصل إلى بغداد قال: يا أبا جعفر، أحب أن ألقى أحمد بن حنبل، فسألنا عن منزله ومضينا إليه فطرقت عليه الباب فلما خرج قلت: يا أبا عبد اللّه أخوك حاتم، قال: فسلم عليه ورحب به وقال بعد بشاشته به: أخبرني يا حاتم فيمَ أتخصّل من الناس؟
قال: يا أبا عبد اللّه في ثلاث خصال.
قال: وما هي؟
قال: أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئا، قال: وتقضي حقوقهم ولا تستقضي منهم حقاً، قال: وتحمل مكروههم ولا تكره واحداً منهم على شيء.
قال: فأطرق أحمد ينكت بإصبعه الأرض ثم رفع رأسه وقال: يا حاتم، إنها لشديدة فقال له حاتم: وليتك تسلم وليتك تسلم وليتك تسلم.
وقال رجل لحاتم الأصم: بلغني أنك تجوز المفاوز من غير زاد، فقال حاتم: بل أجوزها بالزاد وإنما زادي فيها أربعة أشياء، قال: وما هي؟
قال: أرى الدنيا كلها ملكاً للّه، وأرى الخلق كلهم عباد اللّه وعياله، والأسباب والأرزاق بيده اللّه، وأرى قضاء اللّه نافداً في كل أرض اللّه؛ فقال له الرجل: نعم الزاد زادك يا حاتم، أنت تجوز به مفاوز الآخرة.
كان للحجاج في القتل وسفك الدما والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها، ويقال: إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه في ضبط الأمور والحزم والصرامة وإقامة السياسات إلا أنه أسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمّر.
وخطب يوماً فقال في أثناء كلامه: أيها الناس، إن الصبر عن محارم اللّه أيسرُ من الصبر على عذاب اللّه، فقام إليه رجال فقال: ويحك يا حجاج، ما أصفق وجهك وأقل حياك! فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعاد به فقال له: لقد اجترأت عليّ، فقال له: أتجترىء على اللّه فلا ننكره، ونجترىء عليك فتنكره؟ فخلى سبيله.
وقال القاضي: لما حمل الأسرى إلى الحجاج وهو حينئذٍ بواسط القصب قبل أن يبني مدينة واسط قال لحاجبه: قدم إليّ سيدهم فيروز بن الحصين، فقال له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟
قال: فتنة عمت الناس.
فقال: اكتب لي أموالك.
قال: ثمّ ماذا؟
قال: اكتبها أولاً.
قال: ثم أنا آمن من على دمي؟
قال: اكتبها ثم أنظر.
قال: اكتب يا غلام، ألف ألفي ألف، حتى ذكر مالاً كثيراً.
فقال الحجاج: أين هي وعند من هي؟
قال: لا واللّه لا جمعت بين مالي ودمي، فأمر الحجاج فعذب بأنواع العذاب، وكان من جملة ما عذب به أن يشد عليه القصب الفارسي المشقوق ثم يجرّ حتى يجرّح جسده ثم ينضح عليه الخلّ والملح؛ فلما أحس بالموت قال: إن الناس لا تشكنّ أني قُتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدي إليكم أبداً، فأظهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال، فأخرج فصاح فيّ الناس، من عرفني فقد عرفني؛ أنا فيروز، إن لي عند أقوام مالاً فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤدين أحد منه درهماً، ليبلغ الشاهد الغائب؛ فأمر الحجاج فقُتل.
ذكر الحسن بن محمد بن هلال الصابىء أن الحجاج انفرد يوماً عن عسكره فمر برجل يسقي ضيعة له، فقال له: كيف حالكم مع أميركم؟ فقال: لعنه اللّه، المبيد المبير الحقود، عجل اللّه الانتقام منه، فقال له: أتعرفني؟ قال: لا واللّه، قال: أنا الحجاج، فرأى الرجل أن دمه قد طاح فرفع عصاً كانت معه وقال: أتعرفني؟ أنا أبو ثور المجنون، وهذا يوم صرعي، وأزبد وأرغى وهاج وأراد أن يضرب رأسه بالعصا، فضحك منه وانصرف.
كتب حامد الوزير إلى المقتدر يخبره بفتوى القضاة بمقتل الحلاّج فعاد جواب المقتدر بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوْا بقتله فليُسَلّم إلى صاحب الشرطة، وليقدم إليه بضربه ألف سوط، فإن مات من ضرب وإلا ضربه ألف سوط أخرى، ثم تُضرب عنقه، فسلمه الوزير إلى الشرطي وقال له ما رسم به المقتدر، وقال: إن لم يتلف بالضرب فتقطع يده ثم رجله ثم تحز رقبته وتحرق جثته، وإن خدعك وقال لك: أنا أجري الفرات ودجلة ذهباً وفضة، فلا تقبل ذلك منه ولا ترفع العقوبة عنه، فتسلمه الشرطي ليلاً، وأصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين، وقيل لست بقين من ذي القعدة، سنة تسع وثلثمائة، فأخرجه عند باب الطاق، واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، ضربه الجلاد ألف سوط، ولم يتأوّه بل قال للشرطي لما بلغ ستمائة: ادع بي إليك، فإن لك عندي نصيحة تعدل قسطنطينية، فقال له: قد قيل لي عنك إنك تقول هذا وأكثر منه وليس إلى أن أرفع الضرب عنك سبيل، فلما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربعة، ثم حزّ رأسه وأحرق جثته، ولما صارت رماداً ألقاها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر، وجعل أصحابه يعدُون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً.
قال حماد بن أبي حنيفة إن مولاة كانت لداود تخدمه قالت: لو طبخت لك دسماً تأكله، فقال: وددت، فطبخت له دسماً ثم أتته به، فقال لها: ما فعل أيتام بني فلان؟ قالت: على حالهم، قال: اذهبي بهذا إليهم، فقالت: أنت لم تأكل أدماً منذ كذا وكذا، فقال: إن هذا إذا أكلوه صار إلى العرش، وإذا أكلته صار إلى الحشّ، فقالت له: يا سيدي أما تشتهي الخبز؟ قال: يا داية، مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية.
وقدم هارون الرشيد الكوفة فكتب قوماً من القراء فأمر لكل واحد منهم بألفي درهم فكان داود الطائي ممن كتب فيهم ودعى باسمه أين داود الطائي؟ فقالوا: داودا يجيبكم؟ أرسلوا إليه، قال ابن السماك وحماد بن أبي حنيفة: نحن نذهب إليه، قال ابن السماك لحماد في الطريق: إذا نحن دخلنا عليه فأنثرها بين يديه فإن للعين حظها، فقال حماد: رجل ليس عنده شيء يؤمر له بألفي درهم يردها!! فلما دخلوا عليه فنثروها بين يديه قال: سوءة، إنما يفعل هذا بالصبيان، وأبى أن يقبلها.
لما مات أبو سليمان داود الطائي جاء ابن السّماك ووقف على قبره ثم قال: أيها الناس إن أهل الزهد في الدنيا تعجلوا الراحة على أبدانهم مع يسير الحساب غداً عليهم، وإن أهل الرغبة فيها تعجلوا التعب على أبدانهم مع ثقل الحساب غداً عليهم، والزهادة راحة لصاحبها في الدنيا والآخرة، والرغبة تعب لصاحبها في الدنيا والآخرة، رحمك اللّه أبا سليمان ما كان أعجب شأنك، ألزمت نفسك الصبر حتى قومتها: أجعتها وإنما تريد شبعها، وأظمأتها وإنما تريد ريها، أخشنت المطعم وإنما تريد طيبه، أخشنت الملبس وإنما تريد لينه؛ أبا سليمان: أما كنت تشتهي من الطعام طيبه، ومن الماء بارده، ومن اللباس لينه؟ بلى، ولكن أخرت ذلك لما بين يديك، فما أراك إلا قد ظفرت بما طلبت وما إليه رغبت، فما أيسر ما صنعت، وأحقر ما فعلت في جنب ما أمّلت، فمن سعى مثلك عزم عزمك وصبر صبرك، آنس ما يكون إذ كنت باللّه خالياً وأوحش ما يكون آنس ما يكون الناس.
سمعت الحديث وتركت الناس يحدثون وتفهمت في دين اللّه وتركتهم يفتنون. لا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية، سجنت نفسك في بيتك فلا محدث لك، ولا ستر على بابك، فلو رأيت جنازتك وكثرة تابعك علمت أنه قد شرفك وأكرمك وألبسك رداء عملك، فلو لم يرغب عبد الزهد في الدنيا إلا لمحبة هذا الستر الجميل والتابع الكثير لكان حقيقاً بالاجتهاد، فسبحان من لا يضيع مطيعاً ولا ينسى لأحد صنيعاً.
(يتبع)