إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
جريدة طنجة – لمياء السلاوي ( الأخلاق )
الثلاثاء 09 فبراير 2016 – 09:44:06
إن أزمة القيم العميقة التي يعيشها المغرب الآن، والتي تتجلّى انعكاساتها بشكل واضح على كلّ المستويات الهيكلية للمجتمع ،هي في مجملها نتاج واضح لعدّة إخفاقات خاصّة على المستويات الحضارية والفكرية التربوية والاجتماعية التي عاشتها البلاد منذ زمن.
فما نلاحظه اليوم من مشاكل وأمراض وآفات واضطرابات تكاد تعصف بالمجتمع بكلّ فئاته ومكوّناته مثل انهيار قيم العمل والعلم والمعرفة والتطوّر والتربية والأخلاق والإخلاص والضمير واحترام الآخر والمنافسة والاجتهاد وتقدير العائلة والتراحم واحترام المجتمع وحبّ الوطن وإتقان العمل والصدق والصراحة والأمانة والمسؤولية والواجب والانتماء الحضاري والعرقي وغيرها من القيم هي نتيجة منطقية لتدنّي المستويات الفكرية والعلمية والتربوية وغياب أفكار ومشاريع وسياسات قائمة على أسس حضارية أصيلة نابعة من توجّهات وأفكار المجتمع المغربي الدينية والثقافية وانتماءاته التاريخية وهو ما أدّى إلى التعثّر في كلّ التوجّهات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلاد، وأحدث حالة من التخبّط يكاد يفقد المغاربة بوصلتهم ويجعلهم فريسة للتيّارات المتضاربة الوافدة من الشرق والغرب.

يشهد مجتمعنا المغربي منذ سنوات ليست بقصيرة، تراجعاً ملحوظاً في مؤشرات قيمه الأخلاقية، حيث اصبح جلَّ اهتمام أفراد هذا المجتمع العريق والأصيل منصباً على الحاضر وما يؤمّنه من مغريات وماديات دون التفكير أو التخطيط للمستقبل البعيد، الأمر الذي أدّى الى تدهور العلاقات الاجتماعية وحدوث شرخ كبير في نظام القيم ومنها القيم الأخلاقية ، فعندما تطغى المصالح المادية والشخصية على حياة الفرد فأنه يقع في متاهات صراع يقوده الى تغيير اتجاهه الصحيح وتراجع قيمه الأخلاقية .
وفي سياق حديثنا عن القيم لابدَّ لنا ان نوضح بأن القيم هي مجموعة المبادىء والتعاليم والضوابط الأخلاقية التي تحدد سلوك الفرد وترسم له طريقه الصحيح الذي يقوده الى أداء واجباته الحياتية ودوره في المجتمع الذي ينتمي إليه ، ويعتبر نظام القيم السد المنيع الذي يحمي الفرد من الوقوع في الخطأ وارتكاب اعمال تخالف الضمير وتنافي المبادىء والأخلاق وفي ذات الوقت يعتبر المرجعية التي من خلالها نحكم على كل ماهو خطأ أو صواب.
انهيار القيم الأخلاقية ينتقل كالعدوى من فرد الى فرد بواسطة العلاقات التي تربط الأفراد بعضهم ببعض داخل المجتمع حتى تغدو الحالة مرضاً مزمناً يؤدي به – المجتمع – الى التفسخ والإنحطاط ، ومن الملاحظ بأن فئة الشباب هم الأكثر تأثراًبالتغييرات والتطورات الحاصلة في المجتمع والأكثر اصابة بالأمراض المجتمعية والأسباب كثيرة، وأهمها انهيار القيم الأخلاقية على صعيد الأسرة .
فتفكك الأسر وسيطرة روح الأنانية بين افرادها وغياب الرقابة على الأبناء وترك الحبل على الغارب بمنحهم الحرية المطلقة في التصرف دون حسيب او رقيب ادّى الى ضياع الشباب واختلال قيمهم الأخلاقية ، بالإضافة الى دخول التكنولوجيا الحديثة كالأنترنيت والستلايت واجهزة المحمول وكل هذا يعد أسباب وعوامل مهمة في انهيار القيم وتراجع مؤشراتها بشكل خطير ، فمثل هذه الأدوات ادخلت مقاييس ومعايير جديدة كثيرة ومتناقضة ومشوشة أثرّت سلبياً على سلوك الشباب فاختّلت علاقاتهم الأخلاقية التي في حالاتها الإعتيادية تؤدي إلى سعادة الفرد وطمأنينته ، وفتحت باب الإباحية على مصراعيه ووضعت أمامهم مغريات جنسية و أخرى حياتية أدّت بهم الى الانحراف وتغليب الغرائز والإستسلام للسلوكيات اللاأخلاقية واستحلال المحرمات واستباحة الممنوعات واتيان كل ما يخالف الأخلاق والشرع والدين ومخالفة القانون .
ومن المظاهر الأكثر شيوعاً والتي تدل على تراجع القيم الأخلاقية لدى شبابنا، هيعدم احترام العادات والتقاليد والموروثات الأخلاقية وأنماط السلوك المتعارف عليها في مجتمعنا وتقليد نماذج سلوكية مستوردة لا تتناسب مع النماذج المحلية المألوفة كإتباع موضات أزياء غريبة وتسريحات شعر أغرب بالإضافة الى احتقار نظام الأسرة و العقوق بالوالدين وعدم التقييد بالضوابط الاجتماعية والانحراف عنها والتقليل من قوتها وسيطرتها ، ومن هنا يبدأ الأمر بإعطاء مؤشرات خطيرة لابدَّ من تداركها قبل استفحال الحالة وصعوبة علاجها ان لم تكن قد استفحلت فعلاً.
بالرغم من أننا تحدثنا عن الأغلبية من شبابنا إلاّ ان هناك ايضا اقلّية منهم لا يزالون يحتفظون بمبادئهم وقيمهم الأخلاقية ولا يضعفون بسهولة امام المغريات والماديات، ولكن حتى هذه الأقلّية لا تسلم من الأذى وليست بمنأى عن الإنحراف ، فمنهم من تربى في اجواء اسرة فاضلة استمد منها قيمه الأخلاقية وحافظ عليها حتى ظهوره للمجتمع وتصادمه بالواقع الفاسد فاختل توازنه بين ما تعلمه داخل اسرته من قيم مثالية وبين ما لمسه على ارض الواقع من انحدار وتدهور في هذه القيم مما أدّى به إلى الضياع واعتلال السلوك وبالتالي اصبح يعيش مأزقاً نفسياً واجتماعياً خلق لديه فجوة كبيرة بين ما قيل له وتعلمه وما لمسه ، فعلى سبيل المثال تعلم من اسرته شيئاً عن الأمانة واذا به يرى في الواقع صورا عديدة للخيانة وتطلب منه الإستقامة واذا به يجد الإنحراف قائماً في كل مكان في مجتمعه فتختل موازينه وتهتز قيمه ويتسرب الشك إليه فتنهار ثقته وتتكون لديه مشاعر النقمة والعدوان والقيام بسلوكيات لا اخلاقية تثير سخط المجتمع عليه.

ان منظومة القيّم الاخلاقية والاجتماعية تشكل الاسمنت المسلح الذي لن يقوم بدونه أيّ بناء سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي وثقافي، لأنها في النهاية هي ذات القيّم التي تشكّل الإنسان وتميزه عن غيره من المخلوقات وتجعله خليفة في الأرض يقوم بإعمارها وبنائها ويؤسس لمجتمع متجانس تسوده الطمأنينة والأمن والتفاهم والاحترام في كل المجالات وفي حال انهيار هذه القيّم فإن كلّ المقوّمات المادية والمالية والتكنولوجية ستتحوّل إلى أسلحة للدمار والتناحر والتشاجر والتقاتل لتقضي على وجود الإنسان ذاته، مكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية عليها مناط الوجود والتحدي الأكبر لبقاء الدول، ولا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات، ومتى فقدت مكارم الأخلاق ، تفكك أفراد المجتمع،وتصارعوا، وتعارضت مصالحهم، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار ثم الدمار.
من هنا يأتي دور المؤسسات الاجتماعية والثقافية والتربوية والتعليمية والإعلامية بالإضافة الى المنظمات المجتمعية في أن يعيدوا فاعلية النظام الاجتماعي القائم بهم وعليهم، والاهتمام بفئة الشباب ومعالجة مشاكلهم الحياتية والاجتماعية وتحفيز الوعي لإدراك خطورة انهيار القيم الأخلاقية ، واعداد مناهج دراسية اجتماعية تعنى بالمبادىء والقيم والأخلاق وبالتدريج ابتداءا من المرحلة الإبتدائية لتشمل جميع المراحل الدراسية ، وعلى الإعلام بمختلف وسائله اعداد برامج خاصة تعرض مشاكل الشباب واستضافة المختصين الاجتماعيين والنفسيين لإستشارتهم وطلب الحلول والمعالجات منهم والإستمرار على هذا المنهج في محاولة جماعية وبالتعاون مع المؤسسات المعنية للحفاظ على نظام القيم الأخلاقية وبالتالي الحفاظ على المجتمع ومنعه من الإنهيار الأخلاقي ، كذلك على الأسر ان تؤدي دورها في مراقبة ابنائها ذكوراً وإناثاً والتقرب منهم لمعرفة مشاكلهم وايجاد الحلول المناسبة لها ومساعدتهم على تجاوز اخطائهم وعدم تكرارها وذلك من خلال التوجيه والأرشاد السليم والمتابعة المستمرة .
إن أعظم خطر يتهدد أي مجتمع هو انهيار منظومته الأخلاقية، وضياع وميوعة هويته الثقافية، لأن هذه الأمور هي بمثابة الأسس التي تقوم عليها الحضارات بكل جوانبها الفكرية والمادية؛ والمتأمل في تاريخ الأمم يدرك بجلاء أن هلاك الأرواح وخراب العمران في كل أمة سبقه فساد العقائد وانهيار القيم.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ….. فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ….. فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
إذا أصيب القوم في أخلاقهم ….. فأقم عليهم مأتماً وعويلاً

فالأمم تضمحل وتندثر إذا ما انعدمت فيها الأخلاق، فساد فيها الكذب والخداع والغش والفساد حتى ليأتي يوم يصبح فيها الخلوق القوي الأمين غريباً منبوذاً لا يؤخذ له رأي، ولا تسند إليه أمانة، فمن يريد الأمين في بلد عم فيه الفساد وساد فيه الكذوب الخدّاع المنافق؟!
و حقيقة ما أحوجنا إلى أخلاق الإسلام وتوجيهاته، ونحن نرى قطيعة الرحم وضعف البر والصلة وانعدام النصيحة وانتزاع الرحمة والحب والتآلف بين كثير من الأبناء والآباء والجيران والأخوة وبين أفراد المجتمع الواحد، فاذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح، أمن الناس وحفظت الحقوق وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع وقلت الرذيلة وزادت الفضيلة ، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب والخيانة والظلم والغش، فسد المجتمع واختل الأمن وضاعت الحقوق وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع وانقلبت الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العام.
ما أحوجنا إلى أخلاق الإسلام وتوجيهاته؛ لتستقيم أمورنا وتصلح أحوالنا وتضبط تصرفاتنا ويحسن إسلامنا ويكتمل إيماننا، فلا ينفع إيمان أو يقبلُ عمل أو ترفع عبادة بدون أخلاق تحكم السلوك وتوجه التصرفات..