نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (18)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (18) )
الجمعة 05 فبراير 2016 – 12:00:06
•مـا أحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
كان ابن عبدل الأسدي أعرج أحدب، وكان من أطيب الناس وأملحهم فلقيه العسس ليلة وهو سكران محمول في محفة فقال له: من أنت؟
فقال له؛ يا بغيض أنت أعرف بي من أن تسألني من أنا، فاذهب إلى شغلك فإنك تعلم أن اللصوص لا يخرجون بالليل للسرقة محمولين في محفة.
فضحك الرجل كثيرا وانصرف عنه.
كتب كمال الدين الشهرزوري قصة إلى المستنجد باللّه يوسف بن محمد لما قدم إلى بغداد رسولاً من قبل نور الدين ابن زنكي.
يقال إن ليلته حانت من ابنة عمه، فلما توجه إليها وجد في طريقه بعض حجرات جواريه مفتوح الباب، فدخل إليها، فقالت له الجارية: امضِ إلى ابنة عمك فإني أخاف أن تعلم بنا فلا آمن شرّها، فقال: في ساقها خلخال إذا جاءت عرفت بها. فمضت إليها جارية ووشت بالحال، فرفعت خلخالها إلى أعالي ساقها وقصدت المقصورة ففاحت روائح الطيب فنمّ ذلك عليها، فخرج من المقصورة من الباب الآخر وقال:
استكتمت خلخالها ومشت ….. تحت الظلام به فما نطقا
حتى إذ هبّت نسيم صبا ….. ملأ العبير بنشرها الطّرقا
قال الأصمعي:
كانت امرأة موسرة بالكوفة وكانت لها على الناس ديون بالسّواد، فاستعانت بابن عبدل (1) في دينها وقالت له: إني امرأة ليس لي زوج، وجعلت تعرض بأنها تزوجه نفسها. فقام ابن عبدل في دينها حتى اقتضاه. فلما طالبها بالوفاء كتبت إليه.
سيخطئك الذي حاولت منّي فقطّع وصل حبلك من حبالي
كما أخطزت معروف بن بشر وكنت تعدّ ذلك رأس مال
قال: وكان ابن عبدل أتى ابن بشر بالكوفة فسأله، فقال له، أخمسمائة أحبّ إليك الآن عاجلة أم ألف في قابل(2)؟
قال: ألف في قابل؟
فلما أتاه قال له: ألف أحبّ إليك أم ألفان في قابل؟
قال: ألفان في قابل.
فلم يزل ذلك دأبه حتى مات ابن بشر وما أعطاه شيئاً.
روى محمد بن مزيد عن بعضهم قال:
إن العرجي الشاعر كان غازياً، فأصابت الناس مجاعة، فقال للتّجار: اعطوا الناس وعليّ ما تعطون، فلم يزل يعطيهم ويطعم الناس حتى أخصبوا(3) فبلغ ذلك عشرين ألف دينار، فألزمها العرجي نفسه.
وبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز فقال: بيت المال أحقّ بهذا، فقضى التجار ذلك المال من بيت المال.
أخبر أبو عبيدة والمدائني قالا:
أتى رجل الحطيئة وهو في غنم له فقال له: يا صاحب الغنم، فرفع الحطيئة العصا وقال: إنها عجراء من سلم(4).
فقال الرجل: إني ضيف.
فقال: للضيوف أعددتها. فانصرف عنه.
وقيل: إنّ الرجل قال له: السلام عليكم. فقال له: عجراء من سلم. فقال: السلام عليكم.
فقال أعددتها للطّراق(5). فأعاد السلام فقال له: إن شئت قمتُ بها إليك، فانصرف الرجل.
قيل: أشرف المأمون يوماً من قصره فرأى رجلاً وفي يده فحمة، وهو يكتب بها على حائط القصر.
فقال المأمون لأحد غلمانه: انزل إلى ذلك الرجل فأمسك بيده واقرأ ما كتب وائتني به.
فنزل الغلام فأدركه، وقبض على يده، وقرأ ما كتب فإذ هو:
يا قصر، جمع فيك الشؤم واللّوم ….. حتى يعشّش في أرجائك البومُ
يوم يعشّش فيك البوم من فرحي ….. أكون أول، من ينعاك مرغومُ
فقال له: أجب أمير المؤمنين.
فقال: سألتك باللّه لا تذهب بي إليه.
قال: إنه يراك.
فلما مثل بين يديه، قال الغلام: وجدته قد كتب كذا وكذا، وذكر البيتن.
فقال المأمون: ويلك!! ما حملك على هذا؟
فقال الرجال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يخف عنك ما حواه هذا القص من خزائن الأموال والحلى والحلل والطعام والشرب والفرش والجواري والخدم. فمررت عليه وأنا في غاية من سوء الحال من الجوع والعطش، ولي يومان ما استطعمتم فيهما بطعم ولا شراب، فوقفت ساعة وفكّرت في نفسي وقلت: هذا القصر عامر، وأنا جائع، فلا فائدة له، فلو كان خراباً ومررت به على تلك الحالة لم أعدم رخامة أو خشبة أو مسماراً أبيعه وأتقوّت بثمنه. أو ما علم أمير المؤمنين ـ اعزّه اللّه ـ أنه قيل:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ….. نصيبٌ ولا حظٌ تمنّى زوالها
وما ذلك عن بغض ولا عن كراهةٍ ….. ولكن يـرى نـفـعـه بانتقـالهـا
فقال المأمون: يا غلام، أعطه ألف دينار، وأطعمه، واسقه، وقال له: يا هذا هي لك في كل سنة ما دام قصرنا عامراً بنا.
قال الأصمعي:
دخل نصيب الشاعر على يزيد بن عبد الملك ذات يوم، فأنشده قصيدةً امتدحه بها، فطرب لها يزيد واستحسنها، فقال له: أحسنت يا نُصيب! سلني ما شئت.
فقال: يدك يا أمير المؤمنين بالعطاء أبسط من لساني بالمسألة.
فأمر به فمُلىء فمه جوهراً، فلم يزل به غنياً حتى مات.
حُكي أن الحجاج خرج في بعض الأيام للتنزّه، فصرف عنه أصحابه وانفرد بنفسه، فلقي شيخا من بني عجل، فقال له: من أين أنت يا شيخ؟
قال: من هذه القرية.
قال: ما رأيك بحكام البلاد؟
قال: كلّهم أشرار يظلمون الناس ويختلسون أموالهم.
قال: وما قولك في الحجاج؟
قال: هذا أنجسهم، سوّد اللّه وجهه ووجه من استعمله على هذه البلاد.
فقال الحجاج: أتعرف من أنا؟
قال: لا واللّه!
قال: أنا الحجاج.
قال: أنا فداك، وأنت أتعرف من أنا؟
قال: لا.
قال: أنا زيد بن عامر مجنون بني عجل أصرعُ في كل يوم مرّة في مثل هذه الساعة.
فضحك الحجاج وأحسن إليه.
قال المتوكل للشاعر أبي العيناء المشهور بنوادره ولطائفه: ما أشدّ ما مرّ عليك في ذهاب بصرك؟
قال: فوت رؤيتك، يا أمير المؤمنين.
فاستحسن هذا منه، وأمر له بجائزة حسنة.
وغاب أبو العيناء عن المتوكل مدّة ثم دخل عليه، فقال له: ما أقعدك عناّ يا أبا العيناء؟
قال: سرق حماري يا أمير المؤمنين.
قال: كيف سرق؟
قال: واللّه ما كنت مع اللّص فأعرف كيف سرقه.
قال: فما منعك أن تزورنا على غيره؟
قال: ثلاثة أشياء.
قال: ما هنّ؟
قال: قلة يساري(6)، ومنّة العواري(7)، وذلة المكاري(8).
وقيل لأبي العيناء: ما بال الحمير إذ أحسّت بالرجوع إلى مرابطها، والقرب من دور أهلها، أسرعت المشي إلاّ حمارك، إذا قرب من دارك تخابث في المشي؟؟
قال: لعلمه بسوء المنقلب..
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن عبدل الأسدي: صاحب نوادر، كان أعرج أحدب، من الشعراء المجيدين، هجّاء خبيث اللسان.
(2) قابل: أي في العام القادم.
(3) أخصبوا: كانت السنة عندهم خصبة، أمرعوا.
(4) عجراء من سلم: أي عصا قاسية من عود السلم، وهو نوع من الشجر القاسي.
(5) الطّراق: جمع طارق، وهو الزائر.
(6) اليسار: السعة.
(7) العواري: مفرد عارية، وهو الذي يعيرك ماله.
(8) المكاري: ما يكري لأجل بثمن.