نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (15)
جريدة طنجة – محمد وطاش (طَرائف من الثُراث العربي (15) )
الجمعة 15 يناير 2016 – 11:39:13
•مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
فقال: يا غلام، أعلمهم أنّ المال والدار لهم جميعاً.
لما أصيبت عين قتادة بن النعمان الخزرجي يوم أحد، خرجت حدقتها، فجاء إلى النبي (ﷺ ) فقال له رسول اللّه (ﷺ ): أيّهما أحبّ إليك أن أسأل اللّه تعالى أن يردّ عليك عينك أو أسأله أن يحفظ عليك أجرك؟
فقال: يا #رسول_اللّه، إنّ تحي امرأة تحبّني وأحبّها، وإن هذا يشينني عندها، فاسأل اللّه تعالى أن يردّ عليّ عيني، فهو أكرم من أن يحرمني ثوابي.
فأخذ رسول اللّه (ﷺ ) عينه بيده وردّها إلى مكانها فأبصر بها في الحال كأحسن ما كانت، وعاش بعد ذلك خمسين سنة ما رمدت عينه، ولا آلمته أبداً، وكان يقول هذه أشرف عينيّ وأصحّهما.
ودخل بعض ولده على عمر بن عبد العزيز في يوم قسمة فقال: انتسب. فقال هذين البيتين.
أنا ابن الذي سالتْ على الخدّ عينُهُُ ….. فرُدَّت بكفّ المصطفى أحسن الردّ
فعادت كما كانت كأحسن حالها ….. فبوركت من عين وبوركت من يدِ
سأل المهلّب بن أبي صفرة ولده يزيد وهو صغير، فقال له: يا بنيّ، ما أشدُّ البلاء؟
قال: معاداة العقلاء.
قال: فهل غير ذلك يا بنيّ؟
قال: نعم! مسألة البخلاء.
قال: فهل غير ذلك يا بنيّ؟
قال: نعم!
قال وما هو؟
قال: أمر اللؤماء على الكرماء.
قال خالد بن كلثوم. كنت مع زبراء بالمدينة وهو والٍ عليها، وهو من بني هاشم أحد بني ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا وحبس عطرّد المغنّي الفقيه، فأخبروه أن عطّرد هذا من أهل الهيئة والمروءة والمنعمة والدين، فدعا به فخلّى سبيله، وأمره برفع حوائجه إليه فدعا له.
وخرج فإذا هو بالمغنين أُحضروا ليعرضوا، فعندما رآهم عطرّد عاد إليه وقال: أصلح اللّه الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟
قال: نعم.
قال: فلا تظلمهم أيها الأمير، فواللّه ما أحسنوا منه شيئاً وهم ليسوا بمغنين.
فضحك الأمير كثيراً وخلَّى سبيلهم.
اختص الهيثم بن عديّ بمجالسه المنصور والمهدي والرشيد وروى عنهم.
قال الهيثم: قال لي المهدي: ويحك يا هيثم، إن الناس يخبرون عن الأعراب شحاً ولؤماً وكرماً وسماحاً وقد اختلفوا في ذلك، فما عندك؟
فقلت: على الخبير سقطت. خرجتُ من عند أهلي أريد ديار فرائد لي ومعي ناقة أركبها إذ ندَّت فذهبت، فجعلتُ أتبعها حتى أمسيت فأدركتها، ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها، فقالت ربّة الخباء: من أنت؟
فقلت: ضيف.
فقلت: وما يصنع الضيف عندنا؟ إن الصحراء لواسعة، ثم قامت إلى برّ فطحنته، ثم عجنته وخبزته وقعدتْ فأكلتْ، ولم ألبث أن أقبل زوجها ومعه لبن، فسلم ثم قال: من الرجل؟
فقلت: ضيف.
فقال: مرحباً حيّاك اللّه، فدخل الخباء وملأ عقباً(1) من لبن، ثم أتاني به وقال: اشرب، فشربت شراباً هنيئاً، فقال: ما أراك أكلت شيئاً، وما أراها أطعمتك.
فقلت: لا واللّه، فدخل إليها مغضباً وقال: ويلك أكلت وتركت ضيفك.
فقالت: وما أصنع به؟ أطعمه طعامي؟ وجاراها في الكلام حتى شجّها ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها فقلت: ما صنعت عافاك اللّه؟
فقال: لا واللّه ما يبيت ضيفي جائعاً. ثم جمع حطباً وأجّج ناراً وأقبل يكبّب ويطعمني ويأكل ويلقي إليها ويقول: كلي لا أطعمك اللّه حتى إذ أصبح تركني ومضى، فقعدت مغموماً، فلمّا تعالى النهار أقبل ومعه بعير يسأم الناظر أن ينظر إليه، فقال: هذا مكان ناقتك، ثم زوّدني من ذلك اللحم وممّا حضره، وخرجت من عنده. فمضّني الليل إلى خباء، فسلّمت فردّت صاحبة الخباء السلام وقالت: من الرجل؟
فقلت: ضيف.
فقالت: مرحباً بك حيّاك اللّه وعافاك، فنزلت، ثم عمدت إلى برّ فطحنته وعجنته، ثم خبزته خبزة روّتها بالزبد واللّبن ثم وضعته بين يدي فقالت: كل واعذر، فلم ألبث أن أقبل أعرابي كريه الوجه، فسلّم فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل؟
قلت: ضيف.
قال: وما يصنع الضّيف عندنا، ثم دخل إلى أهله فقال: أين طعامي؟
فقالت زوجته: أطعمته الضّيف.
فقال: أتطعمين الضيف طعامي؟ فتحاربا الكلام فرفع عصاه وضرب بها رأسها فشجّها، فجعلت أضحك، فخرج إليَّ فقال: ما يضحكك.
قلت: خير.
قال: واللّه لتخبرني. فأخبرته بقضية المرأة والرجل اللّذين نزلت عندهما قبله.
فأقبل عليَّ وقال: إن هذه التي عندي هي أُخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده هي أختي. فبتُّ ليلتي متعجّباً وانصرفت.
قال أبو يوسف: دعا أبو جعفر المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع صاحب المنصور، وكان يعادي أبا حنيفة: يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يخالف جدّك، كان عبد اللّه بن عبّــاس رضي اللّه عنهما يقول: إذا حلف على اليمين ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو بيومين جاز الاستثناء. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاستثناء إلاَّ متّصلاً باليمين. فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين، إن الربيع يزعم أنه ليس لك في رقاب جُندك بيعة.
قال: وكيف؟
قال: يحلفون لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطال أيمانهم. فضحك المنصور وقال: يا ربيع لا تتعرّض لأبي حنيفة.
فلما خرج أبو حنيفة قال له الربيع: أردت أن تسيط بدمي. قال: لا، ولكنك أردتَ أن تشيط بدمي فخلّصتك وخلصت نفسي.
قال أسد بن عمرو: صلّى أبو حنيفة فيها حُفظ عليه صلاة الفجر بوضوء صلاة العشاء أربعين سنة، وكان عامة ليله يقرأ جميع القرآن في ركعة واحدة، وكان يُسمع بكاؤه في الليل حت يرحمه جيرانه. وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرّة.
كان يحي بن أكثم بن صيفي من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور، وقد رأيت في بعض المجاميع أن أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المأمون وقف بين يدي المأمون وخرج يحي بن أكثم من بعض المستراحات، فوقف، فقال له المأمون.
اصعد، فصعد وجلس على طرف السرير معه.
فقال أحمد: يا أمير المؤمنين إن القاضي يحي صديقي وممن أثق به في جميع أموري، وقد تغيّر عمّا عهدته منه.
فقال المأمون: يا يحي إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما يعد لكما عندي أحد، فما الوحشة بينكما؟
فقال له يحي: يا أمير المؤمنين واللّه إنه ليعلم أني له على أكثر ممّا وصف، ولكنه لمّا رأى منزلتي هذه هذهزالمنزلة خشي أن أتغيّر له يوماً فأقدح فيه عندك، فأحبّ أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه واللّه لو بلغ نهاية مساءتي ما ذكرته بسوء عندك أبداً.
فقال المأمون: أكذالك يا أحمد؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: استعين باللّه عليكما، فما رأيت أتمّ دهاءً ولل أعظم فظنةً منكما.
ها هنا نكتة غريبة يُكثر السؤال عنها، وهي: أن أهل الرُّوم يقال لهم «بنو الأصفر» واستعملته الشعراء في أشعــارهم، فمن ذلك قول عديّ بن زيد العَبـــادي من جملة قصيدته المشهورة:
وبـنـو الأصفـر الكــرام ملوك الـرو ….. مِ لم يـبــقَ مـنهُـمُ مــذكــورُ
ولقد تتبّعت ذلك كثيراً فلم أجد ما يُشفي الغليل، حتى ظَفرت بكتاب قديم إسمه «اللّفيف» ولم يكتب عليه اسم مؤلفه فنقلت منه ما صَورته:
عن أبي العبّـــاس عن أبيه قال: انخرم مُلك الروم في الزّمان الأول، فبقيت منه امرأة فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم شـــــرّ، فاصطلحوا على أن يملكوا أول من يُشرف عليهم، فجلسوا مجلساً لذلك، وأقبل رجل من اليمن معه عبد له حبشي يريد الروم، فأبـــقَ العبد منه، فأشرف عليهم فقـالـــــوا: انظروا في أيّ شيء وقعتم؟ فزوّجوه تلك المرأة، فولدت غُلاماً فسموه «الأصفر» فَخــاصَمهم المولى، فقال الغُـــــلام: صدق أنا عبده فأرضوه، فأعطوه حتى رضي، فبسبب ذلك قيل للروم بنو الأصفر، لصفرة لون الولد، لكونه مولداً بين الحبشي والمرأة البيضاء، واللّه أعلم.
كان المأمون يكرم جانب أبي عبد اللّه محمد بن عمر عمر الواقدي ويبالغ في رعايته. وكتب إليه الواقدي مرّة يشكو ضائقة لحقته وركبه بسببها دين، وعيّن مقداره في رسالته، فوقع المأمون فيها بخطّه:
فيك خلّتان: سَخاء وحَياء، فـــالسخاء أطلق يديك بتبذير ما مَلكت، والحياء حَمّلك أن ذكرت لَنــا بعض دينك، وقد أمرنا لكَ بضِعف ماسألت، وإن كُنّـــا قصّرنا عن بلوغ حاجتك فبجنــايتك على نفسك، وإن كنّا بلغنا بغيتك فزد في بسطة يدك، فإن خزائن اللّه مفتوحة ويده بالخير مبسوطة، وأنت حدّثتني حين كنت على قَضاء الرّشيد أن النبي (ﷺ ) قال للزبير: يا زبير إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش. ينزل اللّه سبحانه للعباد أرزاقهم عل قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلّل قلّل عليه.
قال الواقدي: وكنت نسيت الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إليّ من صلته..
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العقب: الوعاء والقدح.