نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (14)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (14) )
الجمعة 08 يناير 2016 – 20:38:57
•مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر، والناس يقرأون عليه فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي، قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهم، وأريد أن تسمعهما مني وتعرّفني معناهما فقال: قلْ، فأنشده:
وصل الحبيب جِنانُ الخلد أسكنها ….. وهجره النار يصليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلةٌ ….. إن لم يزرني، وبالجوزاء إن زارا
قال إسماعيل: فلما سمعها والدي قال: يا بنيّ، هذا شيء من معرفة علم النجوم وتسييرها لا من صنعه أهل الأدب، فانصرف الشاب من غير حصول فائدة، واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام، آلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ولا يعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك وحصل معرفته، ثم جلس.
ومعنى البيت المسؤول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر، لأنه آخر فصل الربيع، فكأنه يقول: إذا لم يزرني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كان الليل عندي في غاية القصر، واللّه أعلم.
نقلت من كتاب «الهفوات النادرة…» لمحمد بن هلال حكاية ظريفة، ولا بدّ في الكتب من مزج الهذل بالجدّ، والحكاية هي:
أن أبا سعيد ماهك بن بندار المجوسي الرازي كان من كبار كتاب الديلم المشهور وكان يكتب لعلي بن سامان أحد قواد الديلم، فأراد الوزير أبو محمد المهلبي أن ينفذ ماهك في بعض الخدم فقال له، وقد أراد الخروج من عنده: يا أبا سعيد، لا تبرح من الدار حتى أوقفك على شيء أريده معك، فقال: السمع والطاعة لأمر سيدنا الوزير، ونهض من بين يديه، فقال الوزير: هذا رجل مجنون، وربما طال بي الشغل وضاق صدره وانصرف، فتقدّموا إلى البواب أن لا يدعه يخرج من الباب، فجلس ماهك طويلا، وأراد دخول بيت الخلاء، فقام يطلب ذلك فرأى الأخلية مقفلة، وكان قد تقدم الوزير بذلك، قال: كانت دار أبي جعفر الصيمري منتنة الرائحة لأجل خلاء كان بها لعامة الناس، فوجد ماهك الخلاء الخاص غير مقفل، وعليه ستر مسبل، فرفع الستر ليدخل، فجاء الفرّاش فمنعه ودفعه، فقال: يا هذا أليس هذا بيت خلاء؟
قال: بلى.
فقال: أريد أن أعمل فيه حاجتي فلم تمنعني؟
قال: هذا خلاء خاص لا يدخله غير الوزير.
قال: فبقية الأخلية مقفلة، فكيف أعمل وقد جئت أخرج فمنعني البوّاب أفأخرى في ثيابي؟
فقال الفرّاش: استأذن في دخول بيت الخلاء ليتقدم لك بذلك ويفتح لك أحد الأخلية فتقضي حاجتك، فاشتدّ به الأمر، فكتب إلى الوزير رقعة وقال فيها:
قد احتاج عبد سيدنا الوزير ماهك إلى بعض ما يحتاج إليه الناس ولا يحسن ذكره، والفراش يقول لا تدخل، والبواب يقول لا تخرج، وقد تحيّر العبد في البين، والأمر في شدّة، فإن رأى سيدنا الوزير أن يفسح لعبده بأن يعمل ما يحتاج إليه في بيت الخلاء فعل إن شاء اللّه تعالى، والسلام. ودفع الرقعة إلى بعض الحجاب، فأوصلها إلى الوزير، فلم يعلم ما أراد بالرقعة، فاستعلم ما الصورة فعرف بها، فضحك واستلقى على ظهره، ووقع على ظهر الرقعة:
يخرى أبو سعيد أعزّه اللّه بحيث يختار، إن شاء اللّه تعالى.
فجاءه الحاجب بها فأخذه ودفعه إلى الفرّاش وقال: هذا نا طلبت، وهو توقيع سيدنا الوزير، فقال الفرّاش: التوقيعات يقرؤها أبو العلاء ابن أبرونا كاتب ديوان الدار، وأنا لا أحسن أن أكتب ولا أقرأ، فصاح ماهك في الدار: هات من يقرأ في الدار صك الخرا!!
فضحك فرّاش آخر وأخذ بيده، وحمله إلى بعض الحجر حتى قضى حاجته.
لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة، دعا بنيه وكانوا أحد عشر ابناً. وكان عنده مسلمة بن عبد الملك. فأحضر عمر بن عبد العزيز أحد عشر ديناراً ونصف دينار، فأمره أن يكفّن وأن يشترى له مكان يُدفن فيه بخمسة دنانير ويقسم الباقي علي بنيه، وقال: يا بنيَّ، ليس لي مال فأوصي لكم به، ولكن ما تركت لأحدٍ عليكم علقة تعبة، ولا يطأكم مدخل ولا أخذ ثأر، ولا عرض ولا دم. واللّه الخليفة عليكم.
فقال له مسلمة: أو خيرٌ من هذا يا أمير المؤمنين.
قال: وما هو؟
قال: تأخذ من مالي ثلاثمائة ألف دينار وتقسمها بينهم كما تريد.
فقال عمر: أو خير من ذلك؟
فقال: وما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: أن تردّ المال على من أُخذ منه، فإنه ليس بملكك.
قال: فبكى مسلمة عند ذلك.
خرج أعرابي حاجاً، فلما كان في بعض الطرق مات جمله فذهب إلى عمرو بن عثمان وكان يومئذٍ والي المدينة فشكا إليه فلم يعطه شيئاً فقعد الأعرابي يتصفّح وجوه الناس، فمرّ به عبد اللّه بن جعفر فقام إليه الأعرابي وقال:
أبا جعفرٍ إن الحجيح تحملوا ….. وليس لرحلي فاعملنٌ بعيرُ
أبا جعفرٍ ضنَّ الأميرُ بمالهِ ….. وأنت على ما في يديك أميرُ
أيا جعفر يا ابن الشهيد الذي لهُ ….. جناحنا في أعلى الجنان يطيرُ
أبا جعفرِ من بيت آل نبوّةٍ ….. صلاتهمُ للعالمين طهورُ
وكان لعبد اللّه بن جعفر بعير يقدّمه، فعزله، وقال له: خذه بما عليه. فذهب غلام عبد اللّه ليأخذ سيفاً كان على البعير. فقال عبد اللّه: دعه، فقد أعطيته البعير بما عليه، وقال للأعرابي: احتفظ بالسيف، فشراؤه ألف دينار. فرحمه اللّه على من كانت هذه الفعال فعالهم.
روي عنه (ص) أنه قال:
إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة نادى منادٍ: أين أهل الفضل؟ فيقوم أُناس وهم يسيرٌ فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إناّ نراكم قليلاً فما كان فضلكم؟ فيقولون: كُنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا غفرنا وإذا جُهِل علينا حمنا.
فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فنعم أجر العاملين.
دخل بعض الشطار اللصوص إلى دار خلف بن أبي أيوب فرآه قائماً يصلّي بالليل، فجمع ما كان في بيته من قماشٍ وغيره، وربط ذلك كرةً وحملها على رأسه وخلف ينظر إليه، ولم يكلّمه. فخرج اللّص إلى الحائط فلم يقدر على النهوض، فقال له خلف: يا أخي، لا تتعب نفسك، خذ المفتاح وافتح الباب فلعلّك محتاج.
فقال اللص: واللّه إن مثلك لا يؤذي.
ثم ترك القماش وتاب إلى اللّه تعالى.
كان لعبد اللّه بن الزبير أرض مجاورة لأرض معاوية بن أبي سفيان وكان فيها عبيد لعمارة، فدخل عبيد معاوية في أرض عبد اللّه واغتصبوا منها قطعة. فكتب عبد اللّه بن الزبير إلى معاوية:
«وأمّا بعد،
يا معاوية فإنّ عندك عبيداً قد اغتصبوا أرضي، فَمُرْهم بالكفّ عنها وإلاّ كان لي ولكم شأن».
فلما وقف معاوية على كتاب عبد اللّه بن الزبير دفعه إلى ولده يزيد فلمّا قرأه قال: ما تقول يا يزيد؟ قال: أرى أن تبعث إليه جيشاً يكون أوّله عندك وآخره عندنا يأتيك برأسه وتستريح منه.
قال: عندي خير من ذلك.
قال: ما هو يا أبت؟
فقال: عليّ بدواة وقرطاس. ثم كتب فيه: «وقفت على باب ابن أخي وقد ساءني واللّه ما ساءهُ والدنيا وما فيها هينة في جنب رضاك، وقد كتبت على نفسي سطوراً أشهدتُ فيها اللّه تعالى وجماعة من المسلمين أن الأرض وما فيها والعبيد الذين بها ملكك. فضمّها إلى أرضك، والعبيد إلى عبيدك والسلام»،فلما وقف عبد اللّه بن الزبير على كتابه كتب له جواباً فيه:
«وقفت على كتاب أمير المؤمنين، لا أعدمني اللّه بقاءه، ولا أعدمه هذا الرأي الذي أحلّه هذا المحل والسلام» فلما وقف معاوية على الكتاب أعطاه لولده يزيد فلما قرأه تملّل وجهه فرحاً.
فقال له: يا بنيّ، إذ بُليت بشيء من هذا الداء داوه بمثل هذا الدواء، وإنّا لقومٌ لم نر في الحلم إلاّ خيراً.
خرج عبد اللّه بن جعفر وكان يشتهر بالكرم والجود إلى بعض أسفاره، فنزل على نخيل لقوم، وفيها عبد أسود يحرسها، فأتى بقوته، وهو ثلاثة أقراص، فدخل كلب إلى تلك النخيل وهو يلهث، فدنا من الغلام وهو يتشوّف إلى تلك الأقراص، فرمى له العبد قرصاً فأكله ثم رمى له ثاني فأكله، ثم الثالث فأكله، عبد اللّه ينظر إليه.
فقال: يا غلام، كم قوتك في كل يوم؟
قال: ثلاثة أقراص.
قال: فلم آثرت هذا الكلب بها؟
قال: يا سيدي، ليست أرضنا بأرض كلاب، ولم أشك أنه جاء من مسافة بعيدة، وهو جائع، ولم يحضرني سواها، فكرهت ردّه من غير شبع.
قال: فما أنت صانع في هذا اليوم؟
قال: أطوي(1) إلى غدٍ.
قال عبد اللّه: بخ بخ!! واللّه إن هذا الغلام أسخى منّي، فما برح حتى اشترى النخيل والغلام، ثم أعتقه ووهب له النخيل وارتحل عنه.
(يتبع)