نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (9)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (9) )
الجمعة 04 شتنبر 2015 – 17:55:22
• مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
يحكي من فطنته أنه كان في موضع فحدث فيه ما أوجب الخوف، وهناك ثلاث نسوة لا يعرفهن، فقال: هذه ينبغي أن تكون حاملاً، وهذه مرضعاً، وهذه عذراء.
فكشف عن ذلك فكان كما تفرس(1)، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: عند الخوف لا يضع الإنسان يده إلاّ على اعزّ ما له ويخاف عليه، ورأيت الحامل قد وضعت يدها على جوفها، فاستدللت بذلك على حملها، ورأيت المرضع قد وضعت يدها على ثدييها، فعلمت أنها مرضع، والعذراء وضعت يدها على فرجها، فعلمت أنها بكر.
ونظر يوماً إلى آجرّة بالرحبة وهي بمدينة واسط، فقال:
تحت هذه الآجرّة دابة، فنزعوا الآجرّة فإذا تحتها حيّة منطوية، فسألوه عن ذلك فقال: إني رأيت ما بين الآجرّتين نديّا من بين جميع تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئا يتنفس. ومرّ يوماً بمكان فقال: أسمع صوت كلبٍ غريب، فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال: بخضوع صوته وشدّة نباح غيره من الكلاب، فكشفوا عن ذلك فإذا كلب غريب مربوط والكلاب تنبحه.
ونظر يوماً إلى صدع في الأرض فقال: في هذا الصدع دابة، فنظروا فإذا فيه دابة، فسألوه عنه فقال: إن الأرض لا تنصدع إلاّ عن دابة أو نبات.
وقديما قال الجاحظ: إذا نظر الإنسان إلى موضع منفتح في أرض مستوية فليتأمّله فإن رآه يتصدع في تهيّل وكان تفتّحه مستوياً علم أنها كمأة، وإن خلط في التصدع والحركة علم أنها دابة.
وروى عن إياس أنه قال:
ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء بالبصرة، فدخل عليَّ رجل شهد عندي أن البستان الفلاني ـ وذكر حدوده ـ هو ملك فلان. فقلت له: كم عدد شجره؟ فسكت ثم قال:: منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟
فقلت: منذ كذا، فقال: كم عدد خشب سقفه؟ فقلت له: الحقّ معك، وأجزت شهادته. وكان يوماً في بريّة فأعوزهم الماء، فسمع نُباح كلب فقال: هذا على رأس بئر، فاستقرواْ النباح فوجدوه كما قال. فقيل له في ذلك فقال: لأني سمعت الصوت كالذي يخرج من بئر. وكان له في ذلك غرائب.
حدث عبد الرحمن بن عبد اللّه الزهري قال:
صلّى أشعب يوماً إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان، وكان مروان عظيم الخلق والعجيزة، فأفلتت منه ريح عند نهوضه، لها صوت، فانصرف أشعب من الصلاة، فوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح.
فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له: الدّية.
فقال: دية ماذا؟؟
فقال: دية الضرطة التي تحملتها عنك، واللّه وإلاَّ شهرّتك. فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحاً.
غذا أشعب جدياً بلبن زوجته وغيرها حتى بلغ الغاية، قال: ومن مبالغته في ذلك أن قال لزوجته: أي ابنة وردان، إنّي أحب أن ترضعيه بلبنك، قال: ففعلت.
قال: ثم جاء به إلى اسماعيل بن جعفر بن محمد فقال: باللّه إنه لا بني، قد رضع بلبن زوجتي وقد حبوتك به، فلم أر أحداً يستأهله سواك. قال: فنظر اسماعيل إلى فتنة من الفتن فأمر به فذُبح وسُمط، فأقبل عليه أشعب. فقال: المكافأة، فقال: ما عندي واللّه اليوم شيء، ونحن من تعرف، وذلك غير فائت لك.
فلما يئس منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر بن محمد، ثم اندفع يشهق حتي التقت أضلاعه، ثم قال: أَخْلِني. قال: ما معنا أحد يسمع ولا عين عليك.
قال: وثب ابنك اسماعيل على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه. قال: فارتاع جعفر وصاح: ويلك! ولماذا؟ وتريد ماذا؟ قال؛ أمّا ما أريد فوالله مالي في اسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبداً بعدك.
فجزاه خيراً وأدخله منزله وأخرج إليه مائتي دينار وقال له: خذ هذه ولك عندنا ما تُحب.
قال: وخرج إلى اسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه، فإذا به مترسل في مجلسه، فلما رأى وجه أبيه نكره وقام إليه فقال: يا اسماعيل أو فعلتها بأشعب؟ قتلت ولده؟!
قال: فاستضحك وقال: جاءني بجدي من صفته كذا، وخبّره الخبر، فأخبره أبوه ما كان منه وصار إليه.
قال: فكان جعفر يقول لأشعب: رعبتني رعبك اللّه فيقول: روعةُ ابنك واللّه إياي في الجدي أكبر من روعتك أنت في المائتي الدينار.
دعا رجل جليل أشعب فأقام عنده، فقال لأشعب يوماً: أنا أشتهي كبد هذه الشاة ـ لشاة عنده عزيزة عليه نشيطة ـ.
فقال له أشعب: بأبي أنت وأمي أعطنيها وأنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة.
فقال: أخبرك أني أشتهي كبدها وتقول لي:ك أسمن شاةٍ بالمدينة؟!! اذبح يا غلام، فذبحها وشوى له كبدها فأكل حتى شبع.
ثم قال لأشعب من الغد: يا أشعب أنا أشتهي من كبد نجيبي (أكرم الإبل) لنجيب كان عنده ثمنه ألوف الدراهم.
فقال له أشعب: يا سيدي في ثمن هذا واللّه غناي، فأعطنيه وأنا واللّه أطعمك من كبد كل جزور بالمدينة. فقال: أخبرك اني اشتهي من كبد هذا النجيب وتطعمني من غيره؟!! يا غلام إنحرْ، فنحر النجيب وشوى كبده فأكل حتى شبع.
فلما كان اليوم الثالث قال له: يا أشعب، أنا واللّه أشتهي أن آكل من كبدك، فقال له: سبحان اللّه أتأكل من أكباد الناس!
قال: قد أخبرتك، فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله، فقيل له: ويلك أظننت أنه يذبحك؟
فقال: واللّه لو أن كبدي وجميع أكباد العالمين جميعاً اشتهاها لأكلها.
قال: وإنها فعل الرجل بالشاة والنجيب ما فعل توطئه للعبث بأشعب.
قالوا:
أصابت الأكلة (2) رجل عروة بن الزبير وهو بالشام عند الوليد بن عبدالملك، فقطعت رجله في مجلس الوليد، والوليد مشغول عنه بمن يحدّثه، فلم يتحرّك ولم يشعر الوليد أنها قُطعت حتى كُويت فشم رائحة الكيّ.
هكذا قال ابن قتيبة في كتابه «المعارف»(3).
وفي رواية أخرى أن عروة بن الزبير قدم على الوليد بن عبد الملك ومعه ولده محمد بن عروة، فدخل محمد دار الدواب فضربته دابة فخرّ ميتاً، ووقعت في رجل عروة الأكلة ولم يدع ورده تلك الليلة فقال له الوليد: اقطعها، فقال: لا، فسرت إلى ساقه، فقال له الوليد: اقطعها وإلاّ أفسدت عليك جسدك، فقطعها بالنشار وهو شيخ كبير ولم يمسكه أحد وقال: [لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً].
وقدم تلك السنة قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير فسأله الوليد عن عينيه فقال: يا أمير المؤمنين بتّ ليلةً في بطن وادٍ، ولا أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيلٌ فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غير بعير وصبي مولود، كان البعير صعباً فندَّ، فوضعت الصبيّ وأتبعت البعير، فلم أجاوز إلاَّ قليلا حتى سمعت صيحة ابني ورأسه في فم الذئب وهو يأكله، فلحقت البعير لأحبسه فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهب بعيني، فأصبحت لا ال ولا أهل ولا ولد ولا بصر، فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً.
وقال ابن قتيبة وغيره:
لما دُعي الجزار ليقطع رجله قال له: نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألماً فقال: لا أستعين بحرام اللّه على ما أرجو من عافية.
قالوا: فنسقيك المُرقِد.
قال: ما أحب أن أسلب عضوأً من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه.
قال: ودخل عليه قوم أنكرهم، فقال: ما هؤلاء؟
قالوا: يمسكونك فإن الألم ربما عزب معه الصبر.
قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، فقطعت كعبه بالسكين حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار فقطعت وهو يهلل ويكبر. ثم إنه أُغلي له الزيت في مغارف الحديد فحسم به، فغشيّ عليه فأفاق وهو يمسح العرق عن وجهه. ولماّ رأى القدم بأيديهم دعا بها فقلبها في يده ثم قال.
أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام، أو قال معصية، ولماّ دخل ابنه إصطبل الوليد بن عبد الملك وقتلته الدابة كما تقدّم لم يسمع في ذلك منه شيء، حتى قدم المدينة فقال:
اللهمَّ، إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد، وأيم اللّه لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لطالما عافيت.
دخلت امرأة على هارون الرشيد، وعنده جماعة من وجوه أصحابه، فقال: يا أمير المؤمنين أقرّ اللّه عينك، فرّحك بما آتاك، وأتمّ سعدك… لقد حكمت فقسطت.
فقال لها: من تكونين أيتها المرأة؟
فقالت: من آل برمك، ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم، وسلبت نوالهم.
فقال: أمّا الرجال فقد مضى فيهم أمر اللّه، ونفذ فيهم قدره، وأمّا المال فمردّه إليك. قم التفت إلى الحاضرين من أصحابه فقال: أتدرون ما قال هذه المرأة؟
فقالوا: ما نراها قالت إلاّ خيراً.
قال: ماأظنّكم فهمتهم شيئاً. أمّا قولها: «أقرّ اللّه عينك» أي أسكنها، وإذا سكنت العين عن الحركة عميت.
وأما قولها: «فرّحك بما آتاك» فأخذته من قوله تعالى: «حتى إذا فرحوا بما أُتوا أخذناهم بغتةً».
وإمّا قولها: «وأتمّ اللّه سعدك» فأخذته من قول الشاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه ….. ترقّب زوالاً إذ قيل تمّ
وأمّا قولها: «لقد حكمت فقسطت» فأخذته من قوله تعالى: «وأمّا القاسطون فكانو لجهنّم حطباً».
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفرّس: اعتقد وعلم. والفراسة: أن يعلم الباطن من خلال الظاهر.
(2) الأكلة: داء يصيب الرجال.
(3) راجع: «المعارف»، ص 222.