نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (13)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (13) )
الثلاثاء 22 شتنبر 2016 – 16:46:00
•مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
ثم قال: ليكتب لي كل واحد منكم خطه: أنه فلان بن فلان حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، ويذكر جدّته فاطمة بنت الرسول (ص) ثم ليكتب: يا رسول اللّه إني وجدت إضافة وسوء حال في بلدي وقصدت أبا دُلف العجلي فأعطاني ألفيْ دينار كرامة لك، وطلباً لمرضاتك، ورجاء لشفاعتك.
فكتب كل واحد منهم ذلك، وتسلّم الأوراق. وأوصى من يتولى تجهيزه إذا مات أن يضع تلك الأوراق في كفنه، حتى يلقى بها رسول اللّه (ص) ويعرضها عليه.
كانت بين الفقيه محمد بن أبي ليلى وبين أبي حنيفة وحشة يسيرة. وكان يجلس للحكم في مسجد الكوفة فيحكى أنه انصرف يوماً من مجلسه، فسمع امرأة تقول لرجل:
يا ابن الزانيين، فأمر بها فأخذت ورجع إلى مجلسه، وأمر بها فضربت حدّين وهي قائمة.
فبلغ ذلك أبا حنيفة فقال: أخطأ القاضي في هذه الواقعة في ستة أشياء:
في رجوعه إلى مجلسه بعد قيامه منه، ولا ينبغي له أن يرجع بعد أن قام منه.
وفي ضربه الحدّ في المجلس، وقد نهى رسول اللّه (ص) عن إقامة الحدود في المساجد.
وفي ضربه المرأة قائمة، وإنها تضرب النساء قاعدات كاسيات.
وفي ضربه إيّاها حدّين، وإنما يجب على القاذف إذا قذف جماعة بكلمة واحدة حدّ واحد.
ولو وجب أيضاً حدان لا يوالي بينهما بل يضرب أولاً ثم يترك حتى يبرأ من ألم الأول.
وفي إقامة الحدّ عليها بغير طالب.
فبلغ ذلك محمد بن أبي ليلي، فسيّر إلى والي الكوفة وقال: ها هنا شاب يقال له أبو حنيفة يعارضني في أحكامي ويُفتي بخلاف حكمي ويشنّع عليّ بالخطأ، فأريد أن تزجره عن ذلك، فبعث إليه الوالي ومنعه عن الفتيا.
فيقال إنه كان يوماً في بيته وعنده زوجته وابنه حماد وابنته، فقالت له ابنته: إني صائمة وقد خرج من بين أسناني دم وبصقته حتى عاد الرّيق أبيض لا يظهر عليه أثر الدم، فهل أفطر إذا بلعت الآن الريق؟
فقال لها: سلي أخاك حماداً فإن الأمير منعني من الفتيا.
وهذه الحكاية معدودة في مناقب أبي حنيفة وحسن تمسّكة بامتثال إشارة ربّ الأمر، فإن إجابته طاعة، حتى إنه أطاعه بالسرّ، ولم يردّ على ابنته جواباً، وهذا غاية ما يكون من امتثال الأمر.
حكى أبو عبد اللّه الحميدي في كتاب «جذوة المقتبس»(1) والخطيب في «تاريخ بغداد»(2) أن البخاري لماّ قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر، ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين، فلما اطمأنّ المجلس بأهله انتدب إليه واحد من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فكان الفقهاء ممّن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: الرجل فهم، ومن كان منهم ضدّ ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلّة الفهم.
ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول: لا أعرفه.
ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلّهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على قوله: لا أعرفه.
فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أمّا حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء، حتى أتى على تمام العشرة، فردَّ كل متنٍ إلى إسناده وكلّ إسنادٍ إلى متنه، وفعل بالآخرين كذلك، ورد متون الأحاديث كلّها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها، فأقرّ له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل.
أبو الجبائي، كان إماماً في علم الكلام، وله في مذهب الإعتزال مقالات مشهورة، وله مناظرة رواها العلماء. فيقال إن أبا الحسن الأشعري سأله عن ثلاثة إخوة:
أحدهم كان مؤمناً براً شقياً.
والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً.
والثالث كان صغيراً، فماتوا فكيف حالهم؟
فقال الجبائي: أمّا الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر في الدركات، وأمّا الصغير فمن أهل السّلامة.
فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟
فقال الجبائي: لا، لأنه يقال له: إن أخاك إنما وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات.
فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس منّي، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة.
فقال الجبائي: يقول الباري جلَّ وعلا: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك.
فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: يا إلاه العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟
فقال الجبائي للأشعري: إنك مجنون.
فقال: لا، بل وقف حمار الشيخ في العقبة. فانقطع الجبائي.
وهذه المناظرة دالّة على أن اللّه تعالى خصّ من شاء برحمته، وخصّ آخر بعذابه، وأن أفعاله غير معلّلة بشيء من الأغراض.
كان هارون الرشيد قد حلف أنه من أهل الجنّة، فاستفتى العلماء فلم يفته أحد بأنه من أهلها فقيل له عن أبي العباس محمد بن صبيح المعروف بابن السّماك وكان زاهداً عابداً صاحب مواعظ، فاستحضره وسأله، فقال له: هل قدر أمير المؤمنين على معصية فتركها خوفاً من اللّه تعالى؟
فقال: نعم، كان لبعض الناس جارية فهويتها وأنا إذ ذاك شاب، ثم إني ظفرت بها مرّة، وعزمت على ارتكاب الفاحشة معها، ثم فكّرت في النار وهولها، وأن الزنا من الكبائر، فأشفقت من ذلك، وكففت عن الجارية مخافة من اللّه تعالى.
فقال له ابن السّماك: أبشر يا أمير المؤمنين فإنك من أهل الجنة.
فقال هارون الرشيد: ومن أين لك هذا؟
فقال: من قوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنة هي المأوى}(3) فسرّ الرشيد بذلك.
حدث العتبي عن أبيه قال:
دخل عبد اللّه بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوّه، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أدخلتَ عليك من يُؤنسك بأحاديث العرب وفنون الأسمار؟
قال: لست صاحب هزل، والجدّ مع علّتي أحجى بي.
قال: وما علّتك يا أمير المؤمنين؟
قال: هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه فبلغ منّي.
قال: فإن بديحاً مولاي أرقى (4) الناس. فوجّه إليه عبد الملك، فلما مضى الرسول سُقط في يديْ (5) ابن جعفر وقال: كذبة قبيحة عند خليفة. فما كان بأسرع من أن طلع بديح فقال: كيف رقيتك من عرق النسا؟
قال: أرقي الخلق يا أمير المؤمنين.
قال: فسرّي عن عبد اللّه لأن بديحاً كان صاحب فكاهة يعرف بها، فمدّ رجله فتفل عليها وهمهم ورقاها مراراً، فقال عبد الملك: اللّه أكبر وجدت واللّه خفةً وراحة يا غلام، ادعُ فلانة حتى تكتب الرقية، فإنا لا نأمن هيجها بالليل فلا نذعر بديحاً.
فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأته الطالق إن كتبتها حتى تعجّل حبائي، فأمر له بأربعة آلاف درهم، فلما صار المال بين يديه قال: وامرأته طالق إن كتبتها أو يصير المال إلى منزلي. فأمر فحُمل إلى منزله، فلما أحرزه قال: يا أمير المؤمنين، امرأته طالق إن كنت قرأت على رجلك إلاّ أبيات نصيب:
ألا إن ليلى العامرية أصبحت على النأي منّي ذنب غيريّ تنقمُ
قال: ويلك ما تقول؟
قال: امرأته طالق إن كان رقاك إلاَّ بما قال.
قال: فأكتمها عليَّ.
قال: وكيف ذاك وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر؟ فطفق عبد المللك ضاحكاً يفحص برجليه.
قال عمرو الشيباني:
أغار حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر الفزاري على بني عبس، فظفر بفاطمة بنت الخُرشب أم الربيع بن زياد وإخوته راكبةً على جمل لها، فقادها بجملها، فقالت له: أيْ رجل، ضلَّ حلمك، واللّه لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة بي وبك التي أمامنا وراءنا لا يكون بينك وبين بني زياد صلحٌ أبداً، لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاؤوه. وحسبك من شرّ سماعه. قال فإني أذهب بك حتى ترعي عليّ إبلي.
فلما أيقنت أنه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من أعلى البعير فماتت خوفاً من أن يلحق بنيها عارٌ فيها.
لماّ ولي عبد الملك الخلافة عام الجماعة، حجّ في تلك السنة، فلما انصرف رحل معه الحارث بن خالد المخزومي إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهراً لا يصل إليه فانصرف عنه وقال فيه:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوةٌ ….. فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها
وما بي وإن أقصيتني من ضراعةٍ ….. ولا افتقرتْ نفسي إلى من يضيمها
عطفت عليك النفس حتى كأنما ….. بكفيك بؤسي أو عليك نعيمها
وبلغ عبد الملك خبره وأُنشد الشعر، فأرسل إليه من ردّه من طريقه، فلما دخل عليه قال له: حارِ (6)، أخبرني عنك: هل رأيت عليك في المقام ببابي غضاضةً(7) أو في قصدي دناءة؟ قال: لا واللّه يا أمير المؤمنين.
قال: فما حملك على ما قلت وفعلت؟
قال: جفوة ظهرت لي، كنت حقيقاً(8) بغير هذا.
قال: فاخترْ، فإن شئت أعطيتك مائة ألف درهم، أو قضيت دينك، أو ولّيتك مكة سنة. فولاهُ إيّاها، فحجّ بالناس وحجّت عائشة بنت طلحة(9) عامئذٍ، وكان يهواها، فأرسلت إليه: أخَّر الصلاة حتى أفرغ من طوافي. فأمر المؤذنين فأخروا الصلاة حتى فرغت من طوافها، ثم أقيمت الصلاة فصلّى بالناس. وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه. فعزله عبد الملك وكتب إليه يؤنّبه فيما فعل، فقال: ما أهون واللّه غضبه إذا رضيتْ عائشة، واللّه لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخّرت الصلاة إلى الليل.
فلما قضت حجّها أرسل إليها: يا ابنة عمي ألّمي بنا أو عدينا مجلساً نتحدث فيه.
فقالت: في غدٍ أفعل ذلك، ثم رحلت من ليلتها.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع: «الجذوة»، ص 128.
(2) راجع: «تاريخ بغداد»، 20:2.
(3) سورة النازعات: آية 40.
(4) أرقي الناس: أي خبير بالرقية.
(5) سقط في يدي: أي تحيّرت واضطربت.
(6) حار: ترخيم حارث، أي: يا حارث.
(7) غضاضة: منقصة وذلة وعيب.
(8) حقيقاً: جديراً.
(9) عائشة بنت طلحة: أديبة عالمة بأخبار العرب فصيحة، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وخالتها عائشة أم المؤمنين. توفيت سنة 101هـ.