نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (12)

قــالَ: فـإنّهُ لا مكروه فيه، ولكنني قرأت كلاماً وجدته نَظير ما سمعته من الرّشيد يقوله في البلاغة. كان يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في المعنى، حتى قرأت هذا الكتاب، ورمى به إليَّ وقال: هذا كتاب من عمرو بن مسعدة إليه.

قال: فقرأته فإذا فيه: «كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الإنقياد والطاعة على أحسن ما تكون عليه طاعة جند تأخّرت أرزاقهم، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم، واختلّت لذلك أحوالهم، والتاثت معه أمورهم».

فلماّ قرأته قال: إن استحساني إيّاه بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطائهم لسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقة من حلَّ محلَّه في صناعته.

يقال: أشأم من طُوَيسْ المغنيّ. وطويس هو عيسى بن عبد اللّه يضرب به المثل في الشؤم لأنه ولد في اليوم الذي مات فيه رسول اللّه (ص) وفطم في اليوم الذي مات فيه أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وختن في اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وقيل بل بلغ الحلم في ذلك اليوم. وتزوّج في اليوم الذي قتل فيه عثمان بن عفان رضي اللّه عنه، وولد له مولود في اليوم الذي قتل فيه علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وقيل بل في يوم مات فيه الحسن بن علي، رضي اللّه عنهما، فلذلك تشاءموا به. وهذا من عجائب الاتفاقات.

يحكى عن غازي ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الملقب الملك الظاهر أنه كان ملكاً مهيباً حازماً متيقظاً كثير الاّطلاع على أحوال رعيّته وأخبار الملوك.

ويحكى عن سرعة إدراكه أشياء حسنة: منها أنه جلس يوماً لعرض العسكر، وديوان الجيش بين يديه، فكان كلما حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه ليزكوه وينزلوه، حتى حضر واحد فسألوه عن اسمه فقبّل الأرض، فلم يفظن أحد من أرباب الديوان لما أراد، فعاودوا سؤاله، فقال الملك الظاهر: اسمه غازي، كان كذلك، وتأدّب الجندي أن يذكر اسمة لما كان موافقاً لا سم السلطان، وعرف هو مقصوده.

يحكى أن الفضل بن يحيى البرمكي دخل عليه حاجبه يوماً فقال له: إن بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمتّ به إليك. فقال: ادخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسلم، فأوماٌ إليه بالجلوس فجلس فقال له بعد ساعة: ما حاجتك؟ قال، أعلمتك بها رثاثة ملبسي. قال: نعم، فما الذي تمتّ به إلىَّ؟
قال: ولادة تقرب من ولادتك، وجوارٍ يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك.
قال: الفضل: أمّا الجوار فيمكن، وقد يوافق الاسم الاسم، ولكن من أعلمك بالولادة؟
قال: أخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: قد ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل، فسمّتني أمي فضيلاً إكباراً لإسمك أن تلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسّم الفضل وقال له: كم أتى عليك من السنين؟
قال: خمس وثلاثون سنة.
قال: صدقت، هذا المقدار الذي أعُدُّ.
قال: فما فعلت أمّك؟
قال: ماتت.
قال: فما منعك من اللحاق بنا متقدماً؟
قال: لم أرضى نفسي للقائك، لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام، فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي.

قال: فما تصلح له؟
قال: الكبير من الأمر والصغير.
قال: يا غلام، أعطه لكل عام مضى من سنّة ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يجمل بها نفسه إلى وقت استعماله واشتغاله.

كان الفضيل بن عياض الزاهد المشهور من كبار السادات. حدث سفيان بن عينيه قال:
دعانا هارون الرشيد فدخلنا عليه، ودخل الفضيل آخرنا مقنعاً رأسه بردائه، فقال لي: يا سفيان، وأيّهم أمير المؤمنين؟
فقلت: هذا، وأومــَأتُ إلى الرشيد.
فقال له: يا حَسن الوجه، أنت الذي أمر هذه الأمّة في يدك وعنقك؟ لقد تقلدت أمراً عظيماً، فبكى الرشيد، ثم أُتيَ كلُّ رجل منا ببدرة (1)، فكلّ قبلها إلاّ الفضيل.
فقال الرشيد: يا أبا علي ـ كنية الفضيل ـ إن لم تستحلّ أخذها فاعطها ذا دين أو اشبع بها جائعاً أو أكسُ بها عارياً، فاستعفاه منها.

فلما خرجنا قلت: يا أبا علي، أخطأت، ألا أخذتها وصرفتها في أبواب البرّ؟
فأخذ بلحيتي ثم قال: يا أبا محمد، أنت فقيه البلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط؟ لو طابت لأولئك لطابت لي.

قرأت في كتاب فوات الوفيات أن المهدي جلس جلوساً عاماً فدخل عليه رجل من العامة وبيده منديل فيه نعل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه نعل رسول اللّه (ص) قد أهديتها لك، فأخذها منه وقبّلها ووضعها على عينيه وأعطاه عشرة آلاف درهم.

فلما خرج قال المهدي لجلسائهك ما ترون؟ إني أعلم أن رسول اللّه (ص) لم يرها ولم يلبسها وهي ليست له، لكن لو كذبناه لقال للناس: أتيتُ أمير المؤمنين بنعل رسول اللّه (ص) فردّها علىَّ، وكان من يصدّقه أكثر ممّن يكذبه، إذ كان من شأن العامة الميل إلى أشكالها، والنصرة للضعيف على القويّ وإن كان ظالماً. ولهذا فقد اشترينا لسانه وقبلنا هديّته وصدّقنا قوله، وكان الذي فعلناه أرجح وأنجح.

كان مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني أحد فحول الشعراء، مدح الرشيد فأمر له بأموال طائلة ومدح يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني فأجازة مرّة بمائة وتسعين ألف درهم وأقطعه إقطاعات تبلغ مائتيْ ألف درهم.
قال مسلم: ثم أفضت الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني يزيد المذكور فهجوته، فشكاني إلى الرشيد، فدعاني وقال: أتبيعني عرض يزيد؟
قلت: نعم.
قال: بكم؟
قلت: برغيف. فغضب الرشيد حتى خفته على نفسي وقال: قد كان رأيي أن أشتريه منك بمالٍ جسيم، ولست أفعل ولا كرامة، وأنا بريء من أبي، وواللّه، إن بلغني أنك هجوته لأنزعنَّ لسانك من بين فكّيك. قال: فأمسكت عنه بعد ذلك ولم أذكره.

كان المعتصم أبيض أصهب اللحية، ربع القامة، ذا شجاعة وقوة وهمّة عالية، وكان يقال له «المثمن» لأنه خلفاء بني العباس، وملك ثماني سنين وثمانية أشهر وخلف ثمانية أولاد وثماني بنات وعمره 48 سنة، وفتح ثمانية فتوح وقتل ثمانية أعداء وهم: بابك وباطيش، ومازيار، الأفشين، وعجيف، وقاروت، وقائد الرافضة ورئيس الزنادقة. وخلّف من الذهب ثمانية آلاف دينار، ومن الدراهم مثلها، ومن الخيل ثمانين ألف فارس، وثمانية آلاف مملوك، وثمانية آلاف جارية، وبني ثمانية قصور وتوفي سنة ثمانمائة وواحد وأربعين م.
قال أحمد بن أبي دُواد:
كان المعتصم يخرج إليَّ ويقول: عضّ ساعدي بأكبر قوّتك، فأقول: ما تطيب نفسي، فيقول: إنه لا يضرّني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنان.

وقبض يوماً على جندي أخذ ابناً لا مرأة بردّه فأبي، فقبض عليه، فسمعت صوت عظامه، ثم أطلقه فسقط، وكان ذلك في حياة المأمون. وجعل زند رجل بين إصبعيه فكسره.

كان مزبد المدني كثير المجون حلو النادرة له أخبار كثيرة في البخل. رآه إنسان وهو بالرُّها وعليه جبّة خزٌ فقال: هب لي هذه الجبة، فقال: ما أملك غيرها.

فقال الرجال: فإن اللّه تعالى يقول: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»(1).
فقال: اللّه أرحم بعباده من أن ينزل هذه الآية بالرُّها في كانون، وإنما أُنزلتْ بالحجاز في حزيران وتموز وآب.
وباع جارية على أنها تحسن الطبخ جيداً، فلم تحسن شيئاً، فطلب إلى القاضي وطولب بأن يحلف على أنها تحسن الطبيخ، فاندفع وحلف أيماناً مغلّظة أنه دفع إليها مرّة جرادة فعملت منها خمسة ألوان من الطعم وفضل منها شريحة للقديد، سوى الجنب فإنها عملته جوذابة. فضحك من حضر ويئس الخصم من الوصول إلى شيء منه فخلّى سبيله.

كان علي بن المحسن بن علي، أبو القاسم التنوخي ظريفاً نبيلاً، تقلّد قضاء عدة نواحٍ منها المدائن واذربيجان وغيرهما، وكان جيّد النادرة.

اجتاز يوماً في بعض الدروب فسمع امرأة تقول لأخرى: كم عمر بنتك يا أُختي؟
فقالت: رزقتها يوم صُفع القاضي التنوخي وضرب بالسياط.
فرفع رأسه إليها وقال: صار صفعي تاريخك؟! ما وجدتِ تاريخاً غيره!!

وكان أبو القاسم التنوخي، الذي سبق ذكره، نائماً في أحد الأيام فاجتاز واحد غثٌ وأزعجه مما يصيح: شراك النعال، شراك النعال. فقال لغلامه: أجمع كل نعل في البيت وأعطها لهذا يصلحها ويشتغل بها حتى لا نسمع مرّة ثانية صوته المزعج، ثم نام.

وأصلحها الإسكافي واشتغل بها إلى آخر النهار ومضى لشأنه. فلما كان اليوم الثاني فعل كما فعل المرّة الأولى فلم يدعه ينام. فقال للغلام: ادخله، فأدخله فقال له: أمس أصلحت كل نعل عندنا، واليوم تصيح على بابنا، هل بلغك أننا نتصافح بالنعال ونقطعها؟! قفاه، قفاه. فقال: يا سيّدي أتوب ولا أعود أدخل إلى هذا الدرب أبداً.

قلت: وهذا أبو القاسم من أهل بيت كلّهم فضلاء، ذكر ابن خلّكان أباه المحسن وجدّه القاضي التنوخي الكبير.