نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (11)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (11) )
الخميس 15شتنبر 2015 – 11:50:00
•مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
قالت: نعم، كات عندي عجوز فدخل رسول اللّه (ص) فقالت: ادعُ اللّه أن تجعلني من أهل الجنة.
قال: إن الجنّة لا يدخلها العجائز. وسمع النداء فخرج وهي تبكي فقال: ما لها؟
قالوا: إنك حدّثتها أن الجنة لا يدخلها العجائز.
قال: إن اللّه سبحانه وتعالى يحولهن أبكاراً عرباً أتراباً.
قالوا:
أحضر الشعبي بين يدي الحجاج ـ وكان قد خرج مع ابن الأشعث ـ فسلّم على الحجاج بالإمرة ثم قال: أيّها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك لغير ما يعلم اللّه أنه الحق، وأيم اللّه لا أقول في هذا المقام إلاّ حقاً: قد واللّه خرجنا عليك وجهدنا كل الجهد فما كنّا بالفجرة الأقوياء ولا البررة الأتقياء، قد نصرك اللّه علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إلينا أيدينا، وإن عفوتَ عناّ فبحلمك، وبعد، فالحجة لك علينا.
فقال الحجاج: أنت واللّه أحبّ إليّ ممن يدخل عليَّ يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت وما شهدت، قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف.
اللّه أنه الحق، وأيم اللّه لا أقول في هذا المقام إلاّ حقاً
يقال إن الحجاج بن يوسف الثقفي قال للشعبي يوماً: كم عطاَءك في السنة؟
فقال: ألفين.
فقال: ويحك! كم عطاؤك؟
فقال: ألفان.
قال: كيف لحنت(1) أولاً؟
قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا. فاستحسن ذلك منه وأجازه.
قالوا:
وكان الشعبي مزّاحاً، يحكي أن رجلاً دخل عليه ومعه امرأة في البيت فقال:
أيّكما الشعبي؟ فقال: هذه.
قال محمد بن عطية العطوي الشاعر:
كنت في مجلس القاضي يحي بن أكثم، فوافى إسحاق بن ابراهيم الموصلي. وأخذ يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلّم في الفقه، فأحسن وقاس واحتجّ، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، ثم أقبل على القاضي يحي فقال له: أعزّ اللّه القاضي! أفي شيء ممّا ناضرت فيه وحكيته نقص أو مطعن؟.
قال: لا،
قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وأُنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه؟ يعني الغناء.
قال العطوي: فالتفت إليّ القاضي يحي وقال لي: الجواب في هذا عليك. وكان العطوي من أهل الجدل. فقال للقاضي يحي: نعم، أعز اللّه القاضي! الجواب عليَّ.
ثم أقبل على إسحاق فقال: يا أبا محمد، أنت كالفراء والأخفش في النحو؟
فقال: لا.
فقال: فأنت في اللغة ومعرفة الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال لا.
قال: فأنت في علم الكلام كأبي الهذيل العلاّف والنظَّام البلخي؟ قال: لا.
قال: فأنت في الفقه كالقاضي؟ وأشار إلى القاضي يحي، قال: لا.
قال: فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا.
قال:فمن ههنا نُسبت إلى ما نُسبت إليه لأنه لا نظير لك فيه، وأنت في غيره دون رؤساء أهله.
فضحك وقام وانصرف. فقال القاضي يحي للعطوي: لقد وفيت الحجة حقّها، وفيها ظلم قليل لإسحاق، وإنه ممّن يقلُّ في الزمان نظيره.
ذكر الحميدي في كتاب «حذوة المقتبس» (2) قال:
كان الوزير أبو عمر أحمد والد ابن حزم جالساً بين يدي مخدومه المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر في بعض مجالسه العامة، فرفعت إليه رقعة استعطاف لأم رجل مسجون كان المنصور اعتقله حنقاً عليه لجرم استعظمه منه، فلماّ قرأها اشتدّ غضبه وقال: ذكّرتني واللّه به، وأخذ القلم وأراد أن يكتب: يُصلب، فكتب: يُطلق. ورمى الورقة إلى وزيره المذكور، وأخذ الوزير القلم وتناول الورقة وجعل يكتب بمقتضى التوقيع إلى صاحب الشرطة، فقال له المنصور: ما هذا الذي تكتب؟
قال: بإطلاق فلان، فحرد وقال: من أمر بهذا؟
فناوله التوقيع، فلما رآه قال: «وهمت واللّه…». أراد أن يكتب «يصلب» فكتب «يطلق».
فأخذ الوزير الورقة، وأراد أن يكتب إلى الوالي بالإطلاق، فنظر إليه المنصور وغضب أشدّ من الأول وقال: من أمر بهذا؟
فناوله التوقيع، فرأى خطّه، فخطّ عليه، وأراد أن يكتب «يصلب» فكتب «يطلق». وأخذ الوزير التوقيع وشرع في الكتابة إلى الوالي، فرآه المنصور فأنكر أكثر من المرّتين الأوليين، فأراه خطّه بالإطلاق، فلما رآه عجب من ذلك، وقال: نعم يطلق على رغمي، فمن أراد اللّه سبحانه إطلاقه لا أقدر أنا على منعه.
رووا من ألوان وساوسه أنه كان ربما لزم بيته ثلاثة أيام لا يخرج منه، وقد حدّثت زوجته مرّة أن باب بيتهم مقفل من ثلاثة أيام وذلك أن ابن الرومي، كان يلبس ثيابه كل يوم ويتعوّذ ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه فيضع عينه على ثقبٍ في خشب الباب فتقع عينه على جارٍ له وكان أحدب، فاذا نظر ابن الرومي ورآه تشاءم وتطيّر ورجع فخلع ثيابه ومنع أحداً من فتح الباب.
ورووا أن بعض أصحابه افتقده فأرسل إليه خادمه واسمه إقبال، لعلمه أن ابن الرومي يتطيّر بالأسماء. فلمّا سمع ابن الرومي اسم هذا الخادم تشاءم بدلاً من أن يتفاءل وسبب تشاؤمه أنه قلب الاسم فأصبح: لا بقاء.
ورووا أن بعض أصحابه أرسل إليه يوماً بغلام اسمه: حسن. فلما طرق عليه قال: من؟ أجاب الغلام: حسن. فتفاءل ابن الرومي وخرج وإذا على باب داره حانوت خيّاط مقفل وعلى بابه درفتان كهيئة اللاَّم ألف «لا» وتحت الباب نوى تمر فتطيّر ابن الرومي إذ فسرَّ المشهد بأنه يعني: لا تمرّ ورجع ولم يذهب.
ورووا أيضاً أن أصحابه كانوا يعابثونه فكان أحدهم يقرع عليه الباب في الصباح، فإذا سأل ابن الرومي من الطارق، أجابه: مرّة بن حنظلة، أو الشيطان، أو الموت أو غير ذلك من الأسماء التي يتطّير بذكرها فيحبس نفسه في بيته ولا يخرج طيلة يومه.
قيل: إن سبب موت ابن الرومي الشاعر المشهور أن الوزير أبا الحسن القاسم بن عبيد اللّه بن سليمان بن وهب وزير الإمام المعتضد كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدسّ عليه ابن فراس، فأطعمه خشكنانجة(3) مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها ابن الرومي أحسّ بالسّم فقام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال له: سلّم على والدي، فقال: ما طريقي على النار، وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أياماً ومات.
حكى أبو بكر عبد اللّه بن أبي الدنيا أنه حضر مجلس محمد بن دارد الظاهري قال:
فجاءه رجل فوقف عليه ورفع له رقعة، فأخذها وتأملها طويلاً وظن تلامذته أنها مسألة، ثم قلبها وكتب على ظهرها وردّها إلى صاحبها، فنظرنا فإذا الرجل عليّ بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر المشهور وإذا في الرقعة:
يـا ابــن داود يا فقيـه الـعـراق ….. أفتنا في قـواتل الأحـداق
هل عليهن في الجروح قصاص ….. أو مبـاح لهـا دمُ الـعـشّاقِ
وإذا الجواب:
كيف يفتيكــم قتيـل صريــعٌ ….. بسـهـام الفـراق والإشـتيـاق
وقتيل التلاقِ أحـسـن حــالاً ….. عند داودَ مـن قتيــل الـفــراق
كان علي بن السلاَّر، المنعوت بالملك العادل سيف الدين شهماً مقداماً مائلاً إلى أرباب الفضل والصلاح، وكان مع هذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاطعة يؤاخذ الناس بالصغائر والمحقرات.
ومما يحكى عنه أنه قبل وزارته بزمان وهو يومئذٍ من أفراد الأجناد، دخل يوماً على الموقف أبي الكرم ابن معصوم التنيسي، وكان يتولّى الديوان، فشكا إليه حاله من غرامة لزمته بسبب تفريطه في شيء من لوازم الولاية بالغربية. فلما أطال عليه الكلام قال له أبو الكرم: واللّه إن كلامك ما يدخل في أذنيّ، فحقد عليه.
فلما ترقّى إلى درجة الوزارة طلبه، فخاف منه واستتر مدّة، فنادى عليه في البلد، وأهدر دم من يخفيه، فأخرجه الذي خبأه عنده، فخرج في زي امرأة بإزار وحفّ، فعُرف فأخذ وحمل إلى العادل، فأمر بإحضار لوح خشب ومسمار طويل وأمر به فأُلقي على جنبه وطُرح اللوح تحت أُذنه، ثم ضرب المسمار في الأذن الأخرى، وصار كلّما صرخ يقول له: دخل كلامي في أذنك بعد أم لا؟
ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح، ثم عطف المسمار على اللوح.
ويقال: إنه شنقه بعد ذلك.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لحنت: أخطأت في الإعراب.
(2) راجع: «الجذوة»، ص 118.
(3) خشكنانجة: نوع من الفطير.