نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (10)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (10) )
الخميس 10 شتنبر 2015 – 17:45:09
•مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
فقال له المهدي: أي شيء هذا وَيْلك!! ألم تزعم أنه مهر؟!.
فقال له: أوليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائماً تسمّيه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو عندك وصيف؟!! فإن كان سلمة وصيفاً فهذا مُهر. فجعل سَلَمَةُ يشتمه والمهدي يضحك.
قال أبو عبد اللّه محمد بن عبدوس الجهشياري في كتاب «أخبار الوزراء»(1): وجدت بخط أبي علي أحمد بن اسماعيل: حدّثني العباس بن جعفر الأصهاني قال:
طلب عبد الحميد بن يحيى الكاتب وكان صديقاً لا بن المقفّع، ففاجأهما الطلب وهما في بيت، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحدٍ منهما: أنا خوفاً من أن ينال صاحبه مكروه. وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفّع فقال: ترفقوا بنا، كلاً منّا له علامات، فوكلوا بنا بعضكم ويمضي البعض الآخر ويذكر العلامات لمن وجّهكم، ففعلوا، وأُخذ عبد الحميد.
روى محمد بن العباس اليزيدي بــإسناد ذكره قـــال:
أُتي أبو المنصور أخو السفاح ـ وهو ثاني خلفاء بني العباس بعد قتل مروان بن محمد الجعدي ـ بعبد الحميد الكاتب والبعلبكي المؤذن وسلام الحادي، فهمّ المنصور بقتلهم جميعاً لكونهم من أصحاب مروان، فقال سلام: استبقني يا أمير المؤمنين فإني أحسن الناس حداءً، فقال: وما بلغ من حدائك؟
فقال: تعمد إلى إبـــل فتظمئها ثلاثاً ثم توردها الماء، فإذا وردت رفعت صوتي بالحداء فترفع رؤوسها وتدع الشرب ثم لا تشرب حتى أسكت.
قال: فأمر المنصور بإبـل فـــأظمئت ثلاثة أيام، ثم أُوردت الماء، فلّما بدأت بالشرب رفع سلام صوته بالحداء فامتنعت عن الشرب ثم لم تشرب حتى سكت، فاستبقى سلاماً وأجازه وأجرى عليه رزقه.
وقال له البعلبكي المؤذن: استبقني يا أمير المؤمنين.
قال: وما عندك؟
قال: أنا مؤذن.
قال: وما بلغ من أذانك؟
قال: تأمر جارية تقدّم إليك طستاً وتأخذ بيدها إبريقاً وتصب عليك، وأبتدئ الأذان فتدهش ويذهب عقلها إذ سمعت أذاني حتى تلقي الإبريق من يدها وهي لا تعلم، فأمر جارية فأعدّت إبرقا فيه ماء وقدّمت إليه طستاً وجعلت تصب عليه، ورفع البعلبكي صوته بالأذان فبقيت الجارية شاخصة وألقت الإبريق من يدها، فاستبقاه وأجازه وأجرى عليه الرزق وصيّر أمر الجامع إليه. وقال له عبد الحميد الكاتب: استبقني يا أمير المؤمنين قال: وما عندك؟
قال: أنا أبلغ أهل زماني في الكتابة.
فقال له المنصور: أنت الذي فعلت بنا الأفاعيل وعلمت بنا الدواهي. فأمر به فقطعت يداه ثم ضربت عنقه، واللّه أعلم أيّ ذلك كان.
قال الأصمعي:
ذكرت يوماً للرشيد نهم سليمان بن عبد الملك، وقلت: إنّـه كـــان يجلس ويحضر بين يديه الخراف المشوية وهي كما أخرجت من تنانيرها، فيزيد أخذ كُلاها فتمنعه الحرارة، فيجعل يده على طرف جبّته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ كُلاه، فقال لي: قاتلك اللّه، ما أعلمك بأخبارهم!
اعلم أنه عرضت عليّ ذخائر بني أميّة، فنظرت إلى ثياب مذهّبة ثمينة وأكمامها ودكة (2) بالدهن، فلم أدر ما ذلك حتى حدّثتني بالحديث، ثم قال: عليَّ بثياب سليمان، فأتي بها، فنظر إلى تلك الآثار ظاهرة فكساني منها حلة.
وكان الأصمعي ربما خرج فيها أحياناً فيقول: هذه جبّة سليمان التي كسا فيها الرشيد.
وحكي عنه قال:
رأيت بعض الأعراب يغلي ثيابه، فيقتل البراغيث ويدع القمل، فقلت: يا أعرابي، ولم تصنع هذا؟
فقال: أقتل الفرسان ثم أعطف على الرجالة.
من أخبار عبد الملك بن عمير أنه قال:
كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه، فرآني قد ارتعت، فقال لي: ما لك؟
فقلت: أعيذك باللّه يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر بهذا الموضع مع عبيد اللّه بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه بين يديه في هذا المكان.
ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي فرأيت رأس عبيد اللّه بن زياد بين يديه.
ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت رأس المختار فيه بين يديه.
ثم هذا رأس مصعب بن الزبير بين يديك.
قال: فقام عبد الملك من موضعه، وأمر بهدم ذلك الطاق الذي كنّا فيه (3).
قيل:
من أعجب أحاديث مروان بن محمد(4) ما رواه المدائني قال:
لما حاصر مروان تدمر فظفر بها وهدم دورها أفضى إلى جرن طويل، فلم يشك مروان والحاضرون أن تحته كنزاً، فنبشوه فإذا امرأة مسجّاة عظيمة الخلق على قفاها فوق سرير من حجارة عليها سبعون حلّةً منسوجة بالذهب، لها غدائر من رأسها إلى رجليها، فذرع قدمها فكانت عظيمة الساق، وكان طولها سبعة أذرع، وإذ عند رأسها صفيحة من نحاس مكتوب عليها بالحميرية، فطلب من قرأها فإذا فيها: أنا تدمر بنت حسان بن أُذينة بن السميدع بن هرم العماليقي. من دخل عليّ بيتي هذا فأزعجني منه حتى يراني أدخل اللّه عليه المهانة والذل والصّغار.
فلما قــُرئ المكتوب على مروان بن محمد عظم عليه وندم على ما كان منه وتطيّر بذلك وجعل يسترجع ثم أمر بطبق الجرن أن يردّ إلى موضعه، وما كان بين ذلك وبين الظفر به وزوال المُلك واستباحة حريمه إلاّ قليل.
رُوي أن أبا بكر الصّديق خرج بعد البيعة ومعه ميزان ورزمة ثياب تحت يده، وخرج إلى السوق فقيل له:
ما هذا؟
فقال: أكتسب لنفسي وعيالي، فأجمعوا رأيهم وفرضوا له في كل يومٍ درهماً وثلثي درهم من بيت مال المسلمين.
حَكى الشيخ أبو البقاء المذكور في كتاب «شرح المقامات» عند ذكر العنقاء أن أهل الرسّ كان بأرضهم جبل يقال له «رمخ»(5) صاعد في السماء قدر ميل، وكان به طيور كثيرة، وكانت العنقاء طائرة عظيمة الخلق، طويلة العنق، لها وجه إنسان وفيها من كل حيوان شبه، من أحسن الطير، وكانت تأتي في السنة مرّة هذا الجبل فتلتقط طيره، فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير فانقضّت على صبي فذهبت به، فسميت «عنقاء مغرباً» لإبعادها بما تذهب به، ثم ذهبت بجارية أخرى، فشكا أهل الرسّ إلى نبيّهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت، واللّه أعلم.
ووجدت في أواخر كتاب «ربيع الأبرار» للعلامة أبي القاسم الزمخشري في باب الطير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، أن اللّه تعالى خلق في زمن موسى عليه السلام طائرة اسمها العنقاء لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجهها كوجه الإنسان، وأعطاها من كل شيء حسن قسطاً، وخلق لها ذكراً مثلها، وأوحى إليه إنّي خلقت طائرين عجيبين وجعلت رزقها في الوحوش التي حول بيت المقدس وآنستك بهما وجعلتهما زيادة فيها فضّلتُ به بني إسرائيل، فتناسلا وكثر نسلهما، فلماّ توفي موسى عليه السلام، انتقلت فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحش وتختطف الصبيان إلى أن نُبىء خالد بن سنان العبسي بين عيسى ومحمد عليهما السلام فشكوها إليه، فدعا اللّه نسلها وانقرضت واللّه أعلم.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع: «أخبار الوزراء»، 79-80.
(2) ودكة: ملطّخة.
(3) راجع القصة في «الغيث المنسجم»، 132:2.
(4) مروان بن محمد: هو آخر خلفاء بني أمية، ويسمى مروان الحمار.
(5) رمخ: في بعض الروايات: دمخ.