نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (6)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (6) )
الجمعة 13 نونبر 2015 – 15:46:00
• مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
قال لي الحسين بن الضحّاك(1): ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي إيّاه.
ثم ضربني الأمين لمماثلتي ابنه عبد اللّه،
ثم ضربني المأمون لميلي إلى محمد (2)،
ثم ضربني المعتصم لمودّة كانت بيني وبين العباس بن المأمون،
ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكل.
وكل ذلك يجري مجرى الولع والتحذير لي، ثم أحضرني المتوكل وأمر شفيعاً أن يولع بي فتغاضب المتوكل علّي، فقلت: يا أمير المؤمنين إن كنت تضربني كما ضربني آباؤك فاعلم أن آخر ضرب ضُربته كان بسببك، فضحك وقال: بل أصونك وأكرمك.
قالوا:
لما تّمهدت بلاد اليمن للملك المعظم شمس الدولة توران شاه أخو صلاح الدين، واستقامت له أُمورها كره المقام بها لكونه نشأ في بلاد الشام وتربّى بها وهي كثيرة الخير، واليمن بلاد مجدبة. فكتب إلى صلاح الدين يستقيل منها ويسأله الإذن له في العود إلى الشام ويشكو حالة وما يقاسيه من عدم المرافق التي يحتاج إليها، فأرسل إليه رسولاً مضمون رسالته ترغّبه في الإقامة وأنها كثيرة الأموال ومملكة كبيرة، فلما سمع الرسالة قال لمتولي خزانته: احضر لنا ألف دينار، فأحضرها، فقال الأستاذ داره والرسول حاضر عنده: ارسلْ هذا الكيس إلى السوق يشترون لنا بما فيه قطعة ثلج.
فقال الأستاذ داره: يامولانا، هذه بلاد اليمن من أين يكون فيها ثلج؟ فقال: دعهم يشترون بها طبق مشمش لوزي، فقال: من أين يوجد هذا النوع ههنا؟ فجعل يعدّد عليه جميع أنواع فواكه دمشق والأستاذ داره يُظهر التعجّب من كلامه، وكلّما قال له عن نوع يقول له: يا مولانا من أن يوجد هذا ههنا؟.
فلما استوفى الكلام إلى آخره قال للرسول: ليت شعري ماذا أصنع بهذه الأموال إذا لم أنتفع بها في ملاذي وشهواتي؟ فإن المال لا يؤكل بعينه، بل الفائدة فيه أن يتوصل به الإنسان إلى بلوغ أغراضه.
فعاد الرسول إلى صلاح الدين وأخبره بما جرى فأذن له في المجيء.
بوران، هي بنت الحسن بن سهل، من أكمل النساء أدباً وأخلاقاً. قيل: اسمها خديجة وعرفت ببوران، كان المأمون قد تزوجها لمكان أبيها منه. وليس في تاريخ العرب زفاف أُنفق فيه ما أُنفق في زفافها. احتفل أبوها بأمرها وعمل من الولائم والأفراح ما لم يُعهد مثله في عصر من العصور، وكان ذلك «بفم الصلح» وانتهى أمره إلى أن نثر على الهاشميين والقوّاد والكتاب والوجوه بنادق(3) مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوارٍ وصفات دواب وغير ذلك، فكانت البندقة إذا وقعت في يد الرجل فتحها فيقرأ ما في الرقعة، فإذا علم ما فيها مضى إلى الوكيل المرصد لذلك فيدفعها إليه ويتسلّم ما فيها سواء كان ضيعةً أو مُلْكاً آخر أو فرساً أو جارية أو مملوكاً.
ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وأنفق على المأمون وقواده وجميع أصحابه وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه، وكانوا خلقاً لا يحصى، حتى على الجمّالين والمكارية والملاحين وكل من ضمّه عسكره، فلم يكن في العسكر من يشتري شيئاً لنفسه ولا لدوابه.
وذكر الطبري في تاريخه(4) أن المأمون أقام عند الحسن تسعة عشر يوماً، يعدُّ له في كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه. وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم، وأمر له المأمون عند منصرفه بعشرة آلاف ألف درهم وأقطعه فم الصلح، فجلس الحسن وفرّق المال على قواده وأصحابه وحشمه.
وقال غير الطبري:
لما طلب المأمون الدخول على بوران دافعوه لعذر بها، فلم يندفع، فلماَّ زفت إليه وجدها حائضاً فتركها، فلما قعد للناس من الغدّ دخل عليه أحمد بن يوسف الكاتب وقال: يا أمير المؤمنين، هنأك اللّه بما أخذت من الأمر باليمن والبركة وشدّة الحركة، والظفر بالمعركة، فأنشد المأمون:
فــارسٌ مــاضٍ بحربتهِ صــادق بـالــطّعن في الظُّلَمِ
رام أن يدمــي فريسته فــاتّــقــتــه مــن دم بــدمِ
فكني بحيضها وهو من أحسن الكنايات. حكى ذلك أبو العباس الجرجاني في كتاب «الكنايات» وقد رُويت هذه القصة على هذا الوجه، واللّه أعلم بالصواب.
وقد توفيت بوران سنة 271هـ ـ 884م.
نقلت من كتاب «الهفوات النادرة…(5)» لمحمد بن هلال أن أعرابياً شهد الموقف مع عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. قال الأعرابي: فصاح به صائح من خلفه: يا خليفة رسول اللهّ ثم قال: يا أمير المؤمنين، فقال رجل من خلفي: دعاه باسم ميت، مات واللّه أمير المؤمنين، فالتفت إليه، فإذا هو رجل من بني لهب.
قال الأعرابي: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكّت صلعة عمر رضي اللّه عنه فأدمته، فقال قائل: أشعر(6) واللّه أمير المؤمنين، واللّه لا يقف هذا الموقف بعدها، فالتفت إليه فإذا هو اللَّهبي بعينه، فقتل عمر قبل الحول.
وهذه الحكاية في كتاب «الكامل»(7) أيضاً.
وقوله «دعاه باسم ميت» إنما قال ذلك لأن أبا بكر الصديق رضي عنه كان يقال له «خليفة رسول الله» فلما توفي وتولّى عمر قيل له: «خليفة رسول الله» فقال للصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين: هذا أمر يطول شرحه، فإن كل من يتولى يقال له خليفة من كان قبله حتى يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فقيل له: يا أمير المؤمنين، فهو أول من دعي بهذا الإسم، وكان لفظ الخليفة مختصاً بابي بكر الصديق رضي الله عنه، فلهذا قال «دعاه باسم ميت».
وقال عوانه: أول من سمّاه أمير المؤمنين عديّ بن حاتم الطائي وأول من سلّم عليه بها المغيرة بن شعبة. وقال غيره: جلس عمر يوماً فقال: والله ما ندري كيف نقول: أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا خليفة أبي بكر، فأنا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جاء بعدي يقال له: خليفة خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا اسم؟ قالوا: الأمير، قال: كلّكم أمير، قال المغيرة: نحن المؤمنون، وأنت أميرنا، فأنت أمير المؤمنين، قال: أنا أمير المؤمنين، والله أعلم.
كان الناس يعتقدون خطأً أن أبا بكر الصولي هو الذي وضع الشطرنج، لكن الصحيح أن الذي وضعه هو صِصَّة بن داهر الهندي، واسم الملك الذي وضعه له شهرام.
ويقال إن صصَّة لما وضع الشطرنج وعرضه على الملك شهرام المذكور أعجبه وفرح به كثيراً، وأمر يكون في بيوت الديانة، ورآه أفضل ما علم لأنه آلة للحرب وعزّ للدين والدنيا وأساس لكل عدل، وأرظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه منه وقال لصصَّه: اقترح علي ما تشتهي، فقال له: اقترحت أن تضع حبة قمح في البيت الأول، ولاتزال تضعها حتى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني.
فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه قابله بالنزر اليسير، وكان قد أضمر له شيئا كثيرا، فقال: ما أريد إلا هذا، فرادَّه فيه وهو مصر عليه فأجابه إلى مطلوبه وتقدم له به، فلما قل لأرباب الديوان حسبوه فقالوا ما عندنا قمح يفي بهذا ولا بما يقاربه، فلما قيل للملك استنكر هذه المقالة، وأحضر أرباب الديوان وسألهم فقالوا له: لو جُمع كل قمح في الدنيا ما بلغ هذا القدر. فطالبهم بإقامة البرهان على ذلك، فقعدوا وحسبوه، فظهر له صدق ذلك، فقال الملك لصصَّه: أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالا من وضعك الشطرنج.
وطريق هذا التضعيف أن يضع الحاسب في البيت الأول حبة وفي الثاني حبتين وفي الثالث أربع حبات وفي الرابع ثماني حبات، وهكذا إلى آخره، كلما انتقل إلى بيت ضاعف ما قبله وأثبته فيه.
وهذه الطريقة غريبة أثبتناها ليقف عليها من يستنكر ما قالوه في تضعيف رقعة الشطرنج ويعلم أن ذلك حقّ، وأن هذه الطريقة سهلة الإطّلاع على حقيقة ما ذكر عن تضعيف الرقعة.
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هو الحسين الخليع: شاعر من ندماء الخلفاء، توفي سنة 250هـ.
(2) محمد: هو محمد الأمين بن زيدة الخليفة المعروف.
(3) البندق الذي يرمى به. الواحدة بندقة، والجمع بنادق.
(4) راجع: «تاريخ الطبري»، 272:10.
(5) راجع: الهفوات النادرة، ص 321.
(6) أشعر: مات.
(7) راجع: «الكامل»، 145:1.