نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (8)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (8) )
الجمعة 27 نونبر 2015 – 17:11:48
• مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
دخل أبو دُلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعبّاس بن محمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم. فقال له: واللّه لئن لم تهجُ واحداً ممن في البيت لأقطعنّ لسانك. فنظر إلى القوم، فكلّما نظر إلى واحد منهم غمزه عليه رضاه.
قال أبو دُلامة: فعلتُ أني قد وقعت، وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أرَ أحداً أحقّ بالهجاء منيّ، ولا أدعى إلى السلامة من هجاء نفسي، فقلت:
ألا أبلــــــغ إليــــــك أبــا دُلامـــــــةْ …. فليــــس من الكـــــرام ولا كــــرامـهْ
إذا لبــس العمــامـة كــــان قـــــردا …. وخنــــزيـرا إذا نــــزع العمـــــامـــة
جمعــت دمـامةً وجمعــــــت لؤمــــاً …. كــذلك اللــؤم تتبــــــعه الدمـــــامــــة
فإنْ تــك قـــد أصبــتَ بنعـيم دُنيــا …. فــلا تفــرح فقــــد دنــــت القــيامـــة
فضحك القوم ولم يبقَ منهم أحدٌ إلاَّ أجازه.
رُوي أنّ أبا جعفر المنصور كان جالساً، فسقط عليه الذباب، فطيّره، فعاد إليه وألحَّ عليه، وجعل يقع على وجهه، وأكثر من السقوط عليه مراراً حتى أضجره، فقال المنصور: انظروا من بالباب، فقيل له: مقاتل بن سليمان.
فقال: عليَّ به، فأذن له، فلماّ دخل عليه قال له: هل تعلم لماذا خلق اللّه تعالى الذباب؟
قال: نعم ليذلّ اللّه عزّ وجل به الجبابرة. فسكت المنصور.
قيل:
اجتمع في دمشق على القضاء «ثلاثة» شموس: شمس الدين عبد الرحمن الحنبلي، وشمس محمد بن عطاء الحنفي، وشمس الدين ابن خلّكان. وحدث أن عينّ ابن خلكان له نائباً لقبه شمس الدين أيضاً، فأثار ذلك بعض الظرفاء إلى التهكّم من كثرة تلك الشموس، بينما يعيش الناس في ظلام:
أهــــل دمـــشــق اســترابــوا مـن كــثرة الـحــكَّـامِ
إذ هـــم جــيـــعاً شــمـــوسٌ وحــالــهـم في ظـــلامِ
كان محمد بن سفيان أحد الثلاثة الذين سُموا بمحمد في الجاهلية، وذكرهم ابن قتيبة في كتاب المعارف(1)، وقال السهيلي في كتاب «الروض الأُنُف»(2): لا يعرف في العرب من تسمى بهذا الاسم قبله (ص) إلاّ ثلاثة طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد (ص) وبقرب زمانه وأنه يبعث في الحجاز، أن يكون ولداً لهم، وذكرهم ابن فورك في كتاب «الفصول» وهم: محمد بن سفيان بن مجاشع جدّ جدّ الفرزدق الشاعر، والآخر محمد بن أُحيحة بن الجلاح، وهو أخو عبد المطلب جدّ رسول اللّه (ص) لأمه، والآخر محمد بن حمدان من ربيعة. وكان آباء هؤلاء الثلاثة قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم الكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث رسول اللّه (ص) وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملاً، فنذر كل واحد منهم إن وُلد له ذكر أن يسمّيه محمداً، ففعلوا ذلك.
ذكر الزبير بن بكار عباس بن سهل الساعدي قال:
بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل(3) نعوده فإنه يعتل؟ فدخلنا عليه بنفسه، فنظر إليّ وقال: يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قطّ ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق، ويشهد أن لا إله إلاَّ اللّه؟
قلت: أظنه قد نجا وأرجو له الجنّة، فمن هذا الرجل؟
قال: أنا
قلت له: واللّه ما أحسبك سلمت وأنت تشبّب منذ عشرين سنة ببثينة.
قال: لا نالتني شفاعة محمد (ص) وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها لريبة، فما برحنا حتى مات.
كان أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري النحوي جبّاهاً، لم يكن بالبصرة أحد إلاّ وهو يداجيه ويتقيه ويتجنّبه على عرضه. وخرج إلى بلاد فارس قاصداً موسى بن عبد الرحمن الهلالي. فلما قدم عليه قال لغلمانه: احترزوا من أبي عبيدة، فإنّ كلامه كلّه دقّ. ثم حضر الطعام فصبَّ بعض الغلمان على ذيله مرقة. فقال له موسى: قد أصاب ثوبك مرقٌ، وأنا أعطيك عوضه عشر ثياب. فقال أبو عبيدة: لا عليك، فإن مرقكم لا يؤذي، أي ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت.
وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك، يعني أبا عبيدة، خوفا من لسانه، فلما مات لم يحضر جنازته أحد، لأنه لم يكن يسلم من لسانه شريف ولا غيره.
قال لصاحب بن عبّاد:
ما أخجلني قطّ غير ثلاثة: منهم أبو الحسن البديسي، فإنه كان في نفرٍ من جلسائي فقلت له وقد أكثر من أكل المشمش: لا تأكله فإنه يلطّخ المعدة، فقال: ما يعجبني من يطبّ على مائدته.
وآخر قال لي وقد خرجت من دار السلطان وأنا ضجر من أمر عرض لي: من أين أقبلت يا مولانا؟
فقلت: من لعنه اللّه.
فقال: ردّ اللّه غربتك وأحسن على إساءته الأدب.
وصبي مستحسن داعبته فقلت: ليتك تحتي. فقال: مع ثلاثة آخرين، يعني في الجنازة، فأخجلني
حكى جعفر بن قدامة عن ميّة البرمكية قالت:
كانت لأم علي بنت الراس جارية مغنية يقال لها مكر، وكانت من أحسن الناس وجهاً وغناءً، وكان لها رفقاء من الكتّاب ووجوه التجّار، كان أبو يحيى الكيبخي يعاشرها، فافتصدت(4) يوماً فأهدى إليها رفقاؤها صنوف الهدايا، وبعث إليها أبو يحيى ثلاث سلال مختومة، فإذا سلّة فيها ماش(3) ومعه رقعة فيها: الماش خير من لاش، وفي الأخرى عصافير بأجنحتها، فلما فتحت طارت ومعها رقعة فيها: يا سيّدتي أعتقت عنك هؤلاء المساكين ولو كان بدلها عبيداً لأعتقتهم، وفتحت الأخرى فإذا هي فارغة وفيها رقعة مكتوبة فيها: يا مولاتي لو كان عندي شيء لبعثت إليك بشيء، ولكن ليس عندي شيء فلم أبعث إليك بشيء. فضحكوا وبعثوا إليه بنصيب وافر من كل ما أهدي إليها، وكتبتْ إليه أم عليّ: أعطي اللّه عهداً إن لم تكن هديتك أملح من كل هدية وردت إلينا، وفي هداياي متّسع والإنجار أمثل.
قالو:
إن أحمد بن مروان الكردي الحميدي الملقّب نصر الدولة، صاحب ميَّافارقين وديار بكر، ملك البلاد بعد أن قُتل أخوه منصور، وكان رجلاً مسعوداً قضى من اللذّات وبلغ من السعادة ما يقصر الوصف عن شرحه.
وحكى ابن الأزرق الفارقي في تاريخه أنه لم ينقل أن نصر الدولة المذكور صادر أحداً في أيّامه سوى شخص واحد، وقصّ قصّته ولا حاجة إلى ذكرها، وأنه لم تفته صلاة الصبح عن وقتها من انهماكه في اللّذات، وأنه كان له ثلاث مائة وستون جارية يخلو كلّ ليلة من ليالي السنة بواحدة، فلا تعود النوبة إليها إلاّ في مثل تلك الليلة من العام الثاني، وقصده شعراء عصره ومدحوه وخلّدوا مدائحه في دواوينهم
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المعارف»: 566. وانظر: «ابن رسته»، 201.
(2) «الروض الأنف»، 150:2.
(3) جميل: هو جميل بن عبد اللّه بن معمر العذري، شاعر من عشاق العرب. افتتن ببثينة من فتيات قومه، وتوفي سنة 82هـ.
(4) فصد المريض: شقّ عرقه.
(5) الماش: نوع من الحبوب.