نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي )
الأربعاء 07 أكتوبر 2015 – 10:02:38
• مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
ذات الخِمـار الأسود
فقصده فــوجده قد تزهّـد وانقطعَ في المسجدِ، فــأتــاهُ وقصَّ عليه القصة.
فقال: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذا الحال؟
فقال له التاجر: أنا رجل غريب، وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرَّع إليه، فخرج من المسجد وأعاد لباسه الأول وعمل هذه الأبيات وشهرها وهي:
قـل لـلـمـليـحـة في الخـمار الأســود مـاذا فعـلت بـنـاسـكٍ متـعبّـدِ
قـد كــان شمّــر لـلصــلاة ثـيـابــه حتى قعدت لـه بـبـاب المـسـجـد
ردّي عـليــه ثـيــابــه وصــلاتــه لا تـقتــليــه بـحـقّ ديـن محـمّـد
فشاع بين الناس أن «مسكيناً الدارمي» قد رجع إلى ما كان عليه، وأحبَّ واحدة ذات خمار أسود، فلم يبق في المدينة ظريفة إلاَّ وطلبت خمارا أسود.
فباعَ التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه، لكثرة رغباتهم فيه، فلما فرغ منه عاد «مسكين» إلى تعبّده وانقطاعه.
❊ وقال أبو عبد اللّه الحامدي (3):
قـل لـلـمليـحـة في الخــمار المـشـمشي كم ذا الــدلالُ عـدمـتُ كــلَّ مُحــرّشِ
يـا من غـدا قلبي كنـرجـس طـرفهــا في الحـبّ لا صــاح ولا هو مـنتشي
هـذا الـربيـع بصحن خدّك قــد بـدا لمــقـبّـلِ ومُـعــضّضٍ ومُـخــمّشِ ؟
فمتى أبــيـت مُــعـانـقـاً لــبـهــارهِ ولــورده المسـتــأنس المـستــوحش؟
الملوك والخلفاء لا يؤاكلها خدمها
قــال مَخــارق(❊) المُغني:
دخلت على المأمون يوماً وبين يديه طبق عليه رغيفان ودجاجة. قال: فقال لي تعالى يا مخارق. قال: فصيرت بركة قبائي في منطقتي وغسلت يدي وجئت فجعلت أقطع بين يديه من الدجاجة وآكل حتى أتينا على الدجاجة والرغيفين جميعا. وقمت من بين يديه، فلّما جلسنا للنبيذ قال لي: يا مخارق غنيّ صوت كذا. فغنيته فعبَّس في وجهه وقال لعلوية المغني: غنّني يا علويّة هذا الصوت، فغنّاه دون غنائي فضحك إليه وتبسَّم ودعا له بعشرة آلاف درهم. فوضعت بين يديه ثم سألني أن أغنيهْ لحنا آخر فغنّيته واجتهدت ففعل مثل فعله الأول وأمر علويّة فغنّاه ففعل كذلك ودعا له بعشرة آلاف درهم ثم قال: غنّني فغنّيته ففعل كفعله الأول ثم قال لعلويّة: غنّني، فغنّاه فدعا له بعشرة آلاف درهم.
ثم قام إلى الصلاة فقال لي علوية وأصحابنا: ألك ذنب؟
فقلت: لا والله إلا أنني دخلت فدعاني إلى الغذاء فأكلت معه.
فقال لي علوية: ويلك ألم يكن في بيتك رغيف فتأكله قبل مجيئك؟ قال: ثم انصرفنا من ذلك المجلس فأمر أن أحضر الدار كل يوم حتى حضرت شهراً لا يأذن لي، فلما استوفيت ثلاثين يوماً أذن لي فدخلت وهو يتغذّى وبين يديه طبق مثل ذلك الطبق وعليه دجاجة ورغيفان فسلمت فردّ عليَّ السلام ثم قال: ادْنُ يا مخارق. فقلت: يا أمير المؤمنين لا واللّه لا أعود لمثلها أبداً.
قال: فضحك حتى استلقى ثم قال لي: ويلك أظننت بي بخلاً على الطعام، لا واللّه ولكني أردُت تأديبك لمن بعدي لأن الملوك والخفاء لا يؤاكلها خدمها، وأخاف أن تتعود هذا من غيري فلا يحتملك عليه. تعالى الآن فكل في أمان. قال: قلت لا أفعل واللّه.
قال: فدعا لي بطعام وحضر المغنون فقال لعلوية: غنيّ، فغناه فأعرض عنه ثم قال لي: غنِّ فغنّيت فأمر لي بعشرة آلاف درهم ثم لم يزل يفعل كذلك حتى استوفيت ثلاثين ألفاً كما وهب لعلوية.
لا يكبر الرجل عن ثلاث:
تواضعه لسلطانه ووالده ومعلمه العلم
كان المأمون قد وكّل الفراء يلقن ابنيه النحو، فلما كان يوماً أراد الفراء أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرا إلى نعل الفراء يقدمانه له، فتنازعا أيهما يقدمه، فاصطلحا على أن يقدم كل واحد منهما فرداً فقدماها، وكان المأمون له على كل شيء صاحب خبر، فرفع ذلك الخبر إليه، فوجّه إلى الفرّاء فاستدعاه، فلما دخل عليه قال: من أعز الناس؟
قال: ما أعرف أعزّ من أمير المؤمنين.
قال: بلى من إذا نهض تقاتل على تقديم نعليه وليّا عهد المسلمين حتى رضيّ كل واحد أن يقدم له فرداً.
قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها أو أكسر نفوسهما عن شريعة حرصا عليهما، وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ركابيهما، حين خرجا من عنده.
فقال له بعض من حضر: أتمسك لهذين الحدثين ركابيهما وأنت أسنّ منهما؟
فقال له: اسكت يا جاهل، لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلاًّ ذوو الفضل.
فقالَ لهُ المَـأمـــون: لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعبثاً وألزمتك ذنباً، وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما وبين عن جوهرهما، ولقد ظهرت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن توضعه لسلطانه ووالده ومعلّمه العلم، وقد عوَّضتهما بها فعلاه عشرين ألف دينار ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما. .
(1) الخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة وجهها.
(2) مسكين الدارمي: هو ربيعة بن عامر، توفي سنة 89هـ
(3) راجع: «اليتيمة» للثعالبي 372:2.
(❊) مخارق: هو أبو المهنأ ابن يحيى الجزار إمام عصره في فن الغناء، كان الرشيد العباسي يعجب به. توفي سنة 231هـ.












