نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (3)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (3) )
الأربعاء 28 أكتوبر 2015 – 16:29:00
• مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
❊
حدث رجل من أهل البصرة ممن كان يتزوج بالنهاريات (1) قال:
تزوجت امرأة منهن فاجتمعت معها في علْو بيت وبشار تحتنا، أو كنا في أسفل البيت وبشار في علوه مع امرأة، فنهق حمار في الطريق فأجابه حمار الجيران وحمار في الدار فارتجت الناحية بنهيقها، وضرب الحمار الذي في الدار الأرض برجله وجعل يدقها بها دقاً شديداً، فسمعت بشار يقول للمرأة: نفخ يعلم الله في الصور وقامت القيامة أما تسمعين كيف يدق على أهل القبور حتى يخرجوا منها؟
قال: ولم يلبث أن فزعت شاة كانت في السطح فقطعت حبلها، وعد تَ فألقت طبقا وغضارة (2) إلى الدار، فقال بشار: صح الله الخبر ونشر (3) أهل القبور، من قبورهم أزفت يشهد الله الآزفة (4) وزلزلت الأرض زلزالها، فعجبت من كلامه وغاظني ذلك، فسألت من المتكلم فقيل لي : بشار، فقلت : علمت أنه لا يتكلم بمثل هذا غير بشاّر.
ما أكثر أسئلتهم
كان بش اّر يحشو (5) شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بالأشياء التي لا حقيقة لها، فمن ذلك أنه أنشد يوماً شعراً
له فقال فيه:
غنني الغريض بابن قنان.
فقيل له : من ابن قنان هذا ؟ لسنا نعرفه من مغني البصرة ؟
قال: وما عليكم منه! ألكم عليه دين فتطالبون به، أو ثأر تريدون أن تدركوه، أو كفلت لكم به فإذا غاب
طالبتموني بإحضاره؟
قالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، وإن مّا أردنا أن نعرفه.
فقال: هذا رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي .
فقالوا له : إلى متى؟
قال: مذ يوم ولدت وإلى يوم يموت .
قال قدامة بن نوح:
وكنا عند بشار يوماً فطلبنا منه أن ينشدنا فأنشدنا قوله :
وجارية خلقت وحدها…. كأن النساء لديها خدم
دسست إليها أبا مجلز ….وأي فتى إن أصاب اعتزم
فقال له رجل : ومن أبو مجلز هذا يا أبا معاذ (6)؟ قال: وما حاجتك إليه؟! ألك عليه دين أو تطالبه بثأر؟ هو رجل
يتردد بيني وبين معار في رسائل :
وقالوا (7):
جاءنا بشار بن برد يوما فقلنا له: ما لك مغتم؟ فقال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له : لم مت؟ ألم أكن
أحسن إليك! فقال :
سيدي خد بي أتانا ….عند باب الأصبهاني
تي مَّتني ببنـــــان …… وبدل قد شجاني
تيمتني يوم رحنـــا ….بثناياها الحسان
وبــغنــج ودلال …….. سل جسمي وبراني
ولهــــا خـد أسـيل ……..مثل خد الشيفران
فلذا مت ولو عشـ …. ـت إذاً طال هواني
فقيل له: وما الشيفران؟
قال: ما يدرني! هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله…. وكان بشار كثيراً ما يحشو شعره بمثل هذا:
يا حبــــذا جبــل الـريّـــــان من جبـــــــــل …… وحبذا ساكن الريان من كانا
قالت فهلا فدتك النفس أحسن مـن …. هذا لمن كان صب القلب حيرانا
يا قومي أذني لبعض الحي عاشقـــة …. والأذان تعشق العين أحيانا
فقلت أحسنت أنت الشمس طالعــة …. أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
يـــــاليتنــــي كنـت تفـــــاحـــا مـفـلـجـــــــة …. أو كنت من قضب الريحان ريحان
حتى إذا وجدت ريحي فــــأعجبهــــــا …. ونحن في خلوة مثلت إنسانا
فحركت عودهـــــــا ثم انثنت طربـــــــا …. تشدو به ثم لاتخفيه كتمانا
أصبحت أطـــــــوع خلق الله كلهــــــــم …. لأكثرالخلق لي في الحب عصيانا
فقلت أطربتنـــــــا يا زين مجلسنـــــــا …. فهات إنك بالإحسان أولانا
لو كنت أعلـــــــم أن الحب يقتلنـــــــي …. أعددت لي قبل أن ألقك أكفانا
لا يقتـــــــل الله من دانـت مودتـــــــه …… والله يقتل أهل الغدر أحيانا
ووجه بأبيات إليها، فبعث إليه سيدها بألفي دينار وسر بها سرورا شديداً .
أغزل بيت قاله المولدون
ومن شعره، وهو أغزل بيت قاله المولدون :
أنا والله أشتهي سحر عينــــ …. ك وأخشى مصارع العشاق
أفحمته
حدث أهل البصرة، قالوا:
إن امرأة قالت لبشار: أي رجل أنت لو كنت أسود اللحية والرأس! قال بشار:
أما علمت أن بيض البزاة أثمن من سود الغربان؟
فقالت له: أما قولك فحسن في سمع، ومن لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السمع.
فكان بشار يقول: ما أفحمني قط غير هذه المرأة .
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النهاريات: النساء المنسوبات إلى قبيلة بني النهاري، وهي قبيلة من الأشراف باليمن.
(2) الغضارة: القصعة الكبيرة )وعاء كبير واسع(.
(3) نشر: بعث.
(4) الآزفة: القيامة.
(5) يحشو شعره: يدخل فيه ما لا حقيقة له.
(6) أبو معاذ: كنية بشار.
(7) راجع: ´الأغان 3: 229 .












