نوادر وطرائف من التراث العربي الأصيل (2)
جريدة طنجة – محمد وطاش ( طَرائف من الثُراث العربي (2) )
الأربعاء 14 أكتوبر 2015 – 17:25:02
• مـاأحـوجَ المَــرء، في هَذا الزّمن الرَّهيب ذي الوَجْه الكَئيبِ، إلى ما يُبَدّدُ ظُلُمــات غَمّه و يشع نُور البَهْجة في صدرهِ، وهو يستمتع بقراءة ما سَجّلهُ السابقون من مُسْتَمْلَحــات و نــوادر وطرائف تعيد للنفس بعض الاتزان.
ومِمّا يُحَفّز على اقْتِنــاص فُرْصَة شــافية لتصفية المَزاج، ما تَزخــرُ بهِ خزانة الثقافة العربية من أمهات كتب أدبية وفكرية تتضمن كما هائلا من النوادر والطرائف، المجسدة بشكل فني ساخر للحظات مشرقة تنطوي على فوائد ترفيهية ونقدية (اجتماعية،أدبية وسيا سية…)، ككتاب «الأغاني» لأبي فرج الإصفهاني، وكتاب «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«يتيمة الدهر» للثعالبي، و«المستطرف» للأشبيهي، و«نفح الطيب» للمقري، و«مروج الذهب» للمسعودي، و«المحاسن والمساويء» للبيهقي، و«عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«صبح الأعشى» للقلقشندي، وكتاب «الأذكياء» لابن الجوزي والجاحظيات عامة، وغيرها من الكتب والتراجم التي لايسع المجال لذكرها.
وإحْيــاء لهَذا الترُاث الطَّريف التّليد الّأذي يُشخص لحظات عابرة عاشتها أقـوام غـابرة، نُقدّمُ للقَـارئ الكريم، وعبرسلسلة حلقات، باقة منتقاة من الطرائف والنوادرالتي اقتطفناها بعناية من حقل كتاب «أحلى الحكايا» وهو ـ من منشورات دارالكتب اللبنانية ـ لمؤلفه الباحث عبد الأميرعلي مهنا، الذي يقول في مسك ختام مقدمة كتابه الذي أعده بأسلوب فكاهي :
«وتراثنـا العـربـــي مليء بالكتب التي تتناول الشخصيات الطريفة التي تدخل إلى الأوساط الغنية المترفة والأوساط الفقيرة وقصور الملوك ومجالس الخلفاء والقادة، هذه الشخصيات التي وهبها الخالق البديهة والحساسية النقدية المرهفة التي تجعلها تلتقط أحداث الحياة وأحوالها العادية فتتحول على يديها إلى ضحك ونوادر مفعمة بروح النقد الاجتماعي والخلقي والأدبي والسياسي.
هذه الطرائف تُصَوّر لَنـا جــوانب من الحَيــاة الاجْتِمـــاعية عند العرب، أعددتها بأسلوب فكاهي شيق وممتع، آملا أن أكون وفقت إلى بعض مانشدت ومااجتهدت، والله الموفق». وأملنا أن يستفيد اللاحقون مما خلفه السابقون من نوادر وطرائف لاتخلومن فائدة، فهي أشبه ماتكون بوجبات صحية ضمت صحونها مائدة.
فَقِراءة مُمْتعة ومُفيدَة.
نوادر جاحظية
❊
❊ وقد يدفعهم (أي لأهل خراسان) البخل إلى أعجب الحيل وأطرفها، من ذلك ما رواه الجاحظ من أن أناساً من أهل مَرْو لا يلبسون خفافهم (أحذيتهم) إلاَّ ستة أشهر في سنة فإذا لبسوها في هذه الأشهر الستة يمشون على صدور أقدامهم ثلاثة أشهر وعلى أعقاب أرجلهم ثلاثة أشهر مخافة أن تنقب هذه النعال.
❊ ويروي الجاحظ قصة أبي عبد الرحمن الذي كان يحبّ أكل الرؤوس إلاَّ أنه لم يكن يأكل اللحم في عيد الأضحى.
يقول الجاحظ إن أبا عبد الرحمن هذا كان إذا اشترى رأساً لا يُقعِد ابنه الأكبر معه على الخوان (طاولة الأكل) إذ أن هذا الابن ربما رافق أباه إلى بعض الولائم فيأكل اللحم هناك. أما الابن الأصغر فكان يقعد على الخوان مع أبيه ولكن بشروط ووصايا كثيرة منها:
«إعلم يا بني أن مدمن اللحم كمدمن الخمر.
إيَّاك ونهم الصبيان.
إعلم أن الشبع داعية البشم وأن البشم داعية السّقم وأن السقم داعية الموت.
ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتةً لئيمة وهو قاتل نفسه. وقاتل نفسه الأم من قاتل غيره. ولو سألت حُذَّاق الأطباء لأخبروك أن عامة أهل القبور إنّما ماتوا بالتخمة».
❊ قال الجاحظ:
كان أحدهم يستعمل لإقامة الفتيلة في المسرجة عوداً مربوطاً بخيط خوفاً من أن يضيع هذا العود لأنه تشرّب شيئاً من الدهن الذي في المسرجة. فدخل عليه شيخ من أهل مَرْو فأبدى عجبه من إسرافه وتفريطه وأشار عليه بأن يستعمل إبرة أو مسلّة لأنها لا تشرب شيئاً من الدهن ولا يعلق عليها أمّا العود فيعلق عليه الدهن وتأخذ منه والشمس.
❊ وروى الجاحظ قال:
إن رجلاً زار قوماً فأكرموه وطّيبوه فجعلوا المسلك في شاربه، فحكّته شفته العليا، فأدخل إصبعه فحكّها من باطن الشّفة مخافة أن تأخذ إصبعه من المسلك شيئاً.
❊ وهنا قصة الشيخ الخراساني الذي كان يأكل في بعض المواضع إذ مرَّ به رجل فسلّم عليه فردّ الشيخ السلام ثم قال: هلمَّ عافاك اللَّه. فتوجه الرجل نحوه فلما رآه الشيخ مقبلاً قال له: مكانك… فإن العجلة من عمل الشيطان.
فوقف الرجل، فقال له الخراساني: ماذا تريد؟
قال الرجل: أريد أن أتغذّى.
قال الشيخ: ولم ذلك؟ وكيف طمعت في هذا؟ ومن أباح لك مالي؟
قال الرجل: أوليس قد دعوتني؟
قال الشيخ: ويحك، لو ظننتُ هكذا أحمق ما رددتُ عليك السلام. الأمر هو أن أقول أنا: هلمَّ فتجيب أنت: هنيئاً فيكون الكلامٌ بالكلام. فأمَّا الكلامٌ بفعال وقولٌ بأكل فهذا ليس الإنصاف.
من شِعر الرجال أم النساء؟
كان أبو بكر الخوارزمي أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، وكان إماماً في اللغة والأنساب، أقام بالشام مدّة وسكن بنواحي حلب، وكان مشاراً إليه في عصره.
ويحكي أنه قصد مرّة حضرة الصاحب بن عبّاد وهو بأرّجان، فلما وصل إلى بابه، قال لأحد حجَّابه: قل للصاحب على الباب أحد الأدباء، وهو يستأذن في الدخول فدخل الحاجب وأعلمه.
فقال الصاحب: قُلْ له: قد ألزمت نفسي أن لا يدخل عليَّ من الأدباء إلاَّ من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب.
فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له الخوارزمي: ارجعْ إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟
فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يريد أن يكون أبا بكر الخوارزمي، فأذن له في الدخول، فدخل عليه فعرفه وسر به كثيراً.
بين عمر وعليّ
ذكر أبو الفتح ابن جنيّ النحوي في بعض كتبه أن الشريف الرضي أُحضِر إلى ابن السّيرافي النحوي وهو طفل جداً لم يبلغ عمره عشر سنين فلقنه النحو، وقعد معه يوماً في حلقته، فذاكره بشيء من الإعراب على عادة التعليم.
فقال له: إذا قلنا «رأيت عمر» فما علامة النصب في عمر؟.
فقال له الرضي: بُغْضُ عليّ. فعجب السيرافي والحاضرون من حدّة خاطره.
عثرة القول وعثرة الرِّجل
قال ثعلب:
أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من يعقوب بن السكيت، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز باللّه. فلما جلس عنده قال له:
بأي شيء يحب الأمير أن نبدأ ـ يريد من العلوم ـ فقال المعتزّ: بالإنصراف.
قال يعقوب: فأقوم؟
قال المعتز: فأنا أخف نهوضاً منك، وقام فاستعجل فعثر بسراويله فسقط، والتفت إلى يعقوب خجلاً وقد احمرّ وجهه، فأنشد يعقوب:
يـصــاب الـفـتي مـن عـثـرةٍ بـلسـانـه ولـيـس يصــاب المـرءُ من عـثرة الـرّجلِ
فـعـثـرتـه في القـول تُـذهـب رأســـه وعـثرتـه بــالرّجــل تـبــرأ عــلى مـهــلِ
فلما كان من الغدّ دخل يعقوب على المتوكل فأخبره بما جرى، فأمر له بخمسين ألف درهم وقال: بلغني البيان.
بشّار إن حكى
دخل يزيد بن منصور (1) الحميري على المهدي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميري ـ وكانت فيه غلفة فقال له: يا شيخ ما صناعتك؟
فقال: أثقب اللؤلؤ.
فضحك المهدي ثم قال لبشار: أعزُبْ (2) ويلك، أتتنادر على خالي؟!
فقال له: وما أصنع به! يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً ويسأله عن صناعته!
(يتبع)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يزيد بن منصور: خال المهدي، توفي سنة 165هـ.
(2) اغرب: ابتعد