التعليم في المغرب …بين العمومي و الخاص …بين المجاني العقيم و المؤدى عنه الكاسر لظهر الآباء
جريدة طنجة – لمياء السلاوي (.)
الأربعاء 07 أكتوبر 2015 – 10:48:03
فهل اتّفـاق ولقـاء المَغـاربة النَّـادر بمُختلَف شَرائحهم وانتِمــاءاتِهم واهتِمـامــاتهم ومَواقفِهم في هَذا المَوْكب الجَنــائزي وطُقــوس النّعْي والأسى يَعني أن مَدْرستنا لم تَعُد تُنتج سِوى الفَشَل، وأن هذه المؤسسة المجتمعية بسياستها ومناهجها ورأسمالها البشري وخطابها التربوي وكل مكونات وبنية منظومتها هي فاسدة، لم تعد تنفع معها تدخلات الميكانيكي والاطفائي ومشاريع الإصلاح الوهمي؟.
وهل أزْمَة وكَسادَ المَدْرَسة المَغْربية تَحصيل حاصِل ونتيجة إخْفـاقنــا الجَماعي أفرادًا ومُجتمَعًا ودولة، أم هي واقع تدبيري ومسؤولية إدارية وسياسية يجب أن تحدد أسبابها ويحاسب أصحابها؟ فمحترفو لغة الأرقام وانتقاء بعض الثمار اليانعة التي تحجب ذبول المزرعة، يتحدثون عن المعدلات ونسب النجاح وحيازة الشواهد والتسجيل في المسالك الجامعية وولوج أبناء المدرسة العمومية لمدارس المهندسين والبولتكنيك الفرنسية، مما يجعلهم يطمئنوننا بالقول إن مدرستنا بخير. وسياسيي الأحزاب الذين يتحمل جلهم النصيب الأوفر من مسؤولية هذا الفشل لا زالوا يرددون على مسامعنا وعدهم الجميل ومتمنياتهم لنا بالتعميم والجودة والنجاح بعد أن قضوا سنوات في التدبير والصرف الفاشل للمشاريع والصفقات والميزانيات؟ .
في الحاجة إلى تدبير تربوي للشأن التربوي:
إن الاختلال الكبير الذي تعاني منه مدارسنا يعكس في بعده العام، المقاربة الفاشلة للشأن التربوي والتعليمي في المغرب،و التي تتمثل في تحول هذا القطاع إلى موضوع تدبير تكنوقراطي أو إداري بدلا من أن ينظر إليه كشأن تربوي وتكوين مجتمعي، وكان من نتائج هذا التعاطي القطاعي والتقني هيمنة التدبير الإداري والمالي والإحصائي على العقلية المؤسساتية على حساب المقاربة والإنتاج التربويين، اللذان هما عصب وغاية المنظومة في رمتها. وحتى تتضح حدة هذا الانحراف التدبيري والمؤسساتي فيكفي التذكير بأنه على مستوى التسيير والتقويم فالمتعلم والمتعلمة المغربيين أي منتوج هذه المنظومة،هو آخر هم المسؤولين، والبحث والإنتاج العلمي هو في عداد المفقودين، والتربوي” هو أضعف حلقة في السياسة التعليمية وفي بنية وهيكلة الوزارة والأكاديميات والنيابات الإقليمية..

في الحاجة إلى ميثاق مواطنتي حول المدرسة العمومية:
كما أنه من دواعي القلق أن يكون مُدَبّـرو و فـاعِلُــو المدرسة العمومية من مسؤولين ووزاريين ورؤساء أقسام ومصالح ومديري أكاديميات ونواب الوزارة وأطر ومدرسين ومفتشين وأعوان… متواطئين، بشكل واعي أو غير واعي، انسياقا أو عن سابق اصرار، في هذا المسلسل الذي تغتال فيه مدرستنا العمومية ونهدد فيه جميعا أفرادا ومجتمعا، مسؤولين ومواطنين، ميسورين ومحتاجين، متعلمين وأميين، بالتلاشي البطيء لوجودنا ومشتركنا العام وبكساد عملتنا الوطنية والحضارية.
ومن أجلِ مَدْرَستنا العمومية، ومن أجل مستقبلنا جميعا، على المواطنين والمواطنات المغاربة دافعي الضرائب، بوضع الثقة في المدرسة العمومية الوطنية، وتسجيل أبنائهم بها من مستوى الأول ابتدائي إلى الثالث إعدادي على الأقل – سن إجبارية التعليم-، وتحمل مسؤوليتهم السياسية والمواطنتية كاملة في تتبع تمدرس أبنائهم وبناتهم ومحاسبة كل المتدخلين والمعنين من مسؤولين سياسيين وأطر إدارية وتربوية ومدرسين الذين يتقاضون أجورهم من المال العام، ومحاسبتهم على سياساتهم العمومية وأدائهم الإداري والمهني وجودة تربية وتكوين أبنائهم وبناتهم المغاربة.
كذلك التزام المُواطنين والمُواطنات الّـذين يُدرسون أبناءهم بالتعليم الخصوصي بمحاسبة هذه المؤسسات على بنياتها المادية والتربوية وجودة منتوجها، وتوظيف وتكوين أطرها الخاصة و التزام جميع موظفي وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي العاملين بالقطاع العمومي من مسؤولين ومدراء ومفتشين وأساتذة وأستاذات وأعوان …بتدريس أبنائهم بالمدرسة العمومية الوطنية إلى حدود مستوى البكالوريا على الأقل، وذلك بما يؤكد ثقتهم في ذواتهم ووظائفهم وتأدية واجبهم، وفي محاسبة الدولة ومدبري القطاع ومساهمة في صيانة حقهم في الارتقاء بالمدرسة العمومية والاستفادة من خدماتها.
التعليم و المجانية
لو أن كُل الأسر المغربية، وبدون اسْتثناء، تَتوفَر على حَد مَعْقُــول من الوَسائــل التي تُتيحُ لَهــا إمكانية الأداء على أبنائها في التعليم الخاص، لما أبقت واحدا منهم في التعليم العام، أليس هذا كافيا لإبراز أن التعليم العام لم يعد يستهوي أحدا، وأن الحديث عن المجانية، حديث خرافة؟

لقد صارت المؤسسات الخاصة مفتوحة «الصدر»، لمن لهم الإمكانيات، من الروض إلى الأقسام التحضيرية؟ وبعض الأسر تضطر إلى بعث أبنائها لدراسة الطب مثلا في تونس أو السنغال أو أوكرانيا، بعد أن سدت في وجوههم كلية الطب أو الصيدلة. وعندما يغدو اختيار الكليات العمومية آخر ما يتوجه إليه الطالب مكرها، أي بعد انسداد آفاق المؤسسات القائمة على التمييز والانتقاء، أو بعد استحالة دفع مصاريف المؤسسات العليا الخاصة، والتي تكلف الأسرة عدة ملايين في السنة، أنى لنا أن نتحدث عن المجانية؟ بل إن شهادة الماستر في بعض الكليات صار مؤدى عنها.
يُمْكننا الحَديث عن المَجــانية، لو أن هذا التَّعْليم العـام مَرْغُــوب فيه، ومَطْلــوب، لأن كُل الشُروط التَّربَـويــة والمعرفية متوفرة فيه، ولكن عندما يمسي بمثابة آخر الدواء، ويكون اللجوء إليه للضرورة القصوى، فإن إثارة المجانية عبث. وعندما نعرف أن جزءا هاما من الأسر المغربية بات التعليم يشكل بالنسبة إليها «مرضا» عضالا، يستنزف مدخولها الشهري، بدون أن تعوضها عن نسبة من الأداء تعاضدية أو صندوق ضمان؟ فمن التعليم الخاص إلى مؤسسات الدعم والتقوية إلى الساعات الإضافية في البيت. وكل ذلك على أمل حصول أبنائهم على معدل يؤهلهم للولوج إلى المدارس أو الكليات التي يحلمون بها. ومع ذلك، تتبخر الأحلام، فيكون الاضطرار لمتابعة التعليم العالي في مؤسسات «عليا»، بمعنى باهظة جدا، ويكون المصير بعد ذلك: البطالة؟ فما هي صورة هذا التعليم «الخاص» الذي بات شبه «بديل» عن التعليم العمومي؟ وما هو التكوين «المميز» الذي يؤهل به الأجيال الجديدة؟
لقد مر التعليم الخاص بثلاث مراحل، تعكس التطور الذي عرفته السياسة التعليمية ببلادنا. لقد كان هذا التعليم في البداية «حرا»، بمعنى أنه مرتبط بـ»الحرية» التي ضحى المغاربة بكل غال ونفيس من أجل الحصول عليها مع الاستقلال ـ الحلم. أسس الوطنيون، خلال فترة الاستعمار المدرسة «الحرة» لتكون بديلا عن التعليم الفرنسي الذي وضع للأعيان، وأبناء بعض القرى والقبائل بقصد إدماج جزء من المغاربة في بنيته عن طريق سلبهم هويتهم الوطنية، وتغريبهم عن ثقافتهم ولغتهم العربية.
ويستمر مسلسل مُحــاربة “المجانية” في السياسة التعليمية العامة بدون التصريح بذلك في المرحلة الأخيرة (منذ أواسط الثمانينات) إذ سيصبح التعليم الخاص “امتيازا”، فأمام الاكتظاظ وقلة الأطر التربوية وكثرة الإضرابات، تارة للأساتذة وطورا للتلاميذ، للمطالبة بتحسين المستوى التعليمي، وغياب المردودية، وانسداد الآفاق أمام تزايد الخريجين سنويا، رغم السياسة النخبوية، وبعد “عصرنة” الكتاتيب القرآنية وتحويلها إلى رياض للأطفال، ووضع شروط جديدة لفتح المدارس الخاصة، صار الاقتناع لدى بعض الفئات الاجتماعية بأن التعليم الجيد لا يمكن أن توفره إلا المدارس الابتدائية الخاصة، ثم تواصل هذا التصور بعد ذلك مع الإعدادي فالثانوي، وأخيرا العالي.
صارَت هذهِ المؤسسات تنبت سنويـًا داخلَ المُدن الكبرى كــالفطر، وصارت مَجـالاً للتّنــافُس في إقــامة البنـايـــات الفَخْمة و رَفــع الأثمنة والدعاية وادعاء “الانتقاء” عن طريق إجراء المقابلة قبل الدخول وإدراج الإنجليزية في الابتدائي؟ وفرض الكتب المدرسية الأجنبية… كما أنها صارت تتنافس في وضع سبورات النَّجــاح في الابتدائي والباكلوريا بنسبة مائة في المائة، وفتح الأقسام التحضيرية؟ وادعاء الشراكات مع مؤسسات جامعية أجنبية…
لقد انتقل التعليم الخاص في المرحلة الأخيرة على مستوى الظاهر من “امتصاص” الراسبين والعاجزين الذين لفظهم التعليم العمومي، إلى امتصاص “الراغبين” في التفوق من أجل الحصول على النقط التي تسمح لهم بالقبول في لوائح الانتقاء والتميز؟ أو متابعة الدراسة في الخارج. وصار الآباء، كيفما كان وضعهم الاجتماعي، ضحية هذا التحول أو المتخيل الذي فرضه التعليم وقد صار مقاولة تقوم على الاستثمار والربح المضمون؟
التعليم الخاص يعيد إنتاج أزمة التعليم العام ولكن بثمن باهظ تؤديه الأسرة المغربية، فالسياسة العامة التي تحكم التعليم واحدة، وبدون استعادة التعليم الخاص بعده الوطني، لا يمكنه أن يلعب دورا ما في تطوير التعليم المغربي، أو تكوين أطر حقيقية جديرة بالتضحيات الجسيمة التي تقدمها الأسر المغربية، ولا بد في هذا الاتجاه من إعادة النظر في هذا التعليم، بما يجعله استثمارا حقيقيا من أجل تكوين العقول، لا استثمارا لمراكمة الثروات، وبيع شهادات “النجاح”.