«كنت بين الفينة والأخرى أشعر ب أن الواجب كان يفرض علي أن أحضر معي للسيد السفير صندوقين أو ثلاثة من برتقال المغرب
جريدة طنجة – محمد وطاش ( .مؤسسة عبد الهادي التّـازي. )
الخميس 08 أكتوبر 2015 – 17:10:45
•بمُباركة وتَزكية من رئيس مُؤسسة عبد الهادي التّـازي، الأستاذ يسر التّـازي، نواصل نشر سلسلة حلقات كتاب « التحليق إلى البيت العتيق «لمؤلفه/الفقيد العزيز المرحوم الدكتور عبد الهـادي التّـازي أمطره الله بشآبيب رحمته، وجعل كل حرف من حروف هذا الكتاب وسائر عطاءاته في ميزان حسناتهِ. ويستعرض هذا الكتاب مذكرات للفقيد سَجّلهــا إبــّان موسم حج 1959 م.
فقراءة ممتعة.
العودة إلى المغرب
لقد وردنا للمطار من أجل تصفية بعض الإجراءات التي تتعلق بعودتنا، إن كل واحد من الوفد «وسق» (1) ما شاء له أن يسق! ستون كيلو للواحد بالإضافة إلى القدر القانوني، بل في الناس من كان يفوق هذا المقدار، وبعد أن صرفنا ما تبقى لنا من مال مستعينين في ذلك التحويل بأصغر حاسوبي رأيته في حياتي كان يعتمد عليه بجدة الموظفون ورجال الأعمال على صغر سنه.!! بعد ذلك رجعنا إلى بيت السيد السفير حيث تناولنا معه غذاءه أكرمه الله مع بعض الزائرين، وبالمناسبة أذكر أن بيت هذا السفير كان نادياً لكل الزوار، وقد كان هذا الغذاء مناسبة للاجتماع بالشاعرين الفلسطينيين السيدين الحاج محمد مصطفى سكران)مقامه الأردن( والحاج فرحان سلام (مقامه دمشق)، لقد استمعنا إلى قصيدة كان اقترحها على أحدهما جلالة الملك سعود حول فلسطين، كما استمعنا إلى مناظرة منها بين ويزمان وبين المفتي.
هما خصيصان في إنشاد الزجل، وقد سمعت من الحاج فرحان سلام نونيته المعروفة:
أقول للجنة التقسيم ماذا؟
خبأت لنا وماذا تحكمينا؟!
لياقة افتقدناها
وما أنسى وهذا ما رأيت أن من واجبي أن أخطّه بقلمي أقول ما أنسى أنني كنت بين الفينة والأخرى أشعر بأن الواجب كان يفرض علي أن أحضر معي للسيد السفير صندوقين أو ثلاثة من برتقال المغرب لا سيما والجو على ما نعرف صيف، وهذا شيء مفقود هنا، إنه شعور أتمنى ألا يخذلني في مرة قابلة!.
ولماذا لا تقوم بيننا اتفاقيات؟
وكان فيما ركزت عليه في مذكراتي هو التساؤل حول إمكانية عقد اتفاقيات تجارية بين المغرب والسعودية، إن لدينا من الفواكه والخيرات في هذه الشهور ما يفضل عن حاجياتنا بل ما يتعرض للتلف والخراب، فلماذا لا نزود به هذه البقاع؟ لا سيما والبواخر في طريقها، لقد اعتقدت أن ذلك لا يكلف المغرب شيئاً بل إنه سيفيده.
وعندما كنا نهم بوداع السيد السفير غازي والدكتور العراقي والأخوين عبدالحي وعبدالنبي، سلمني الأستاذ غازي ظرفاً قال: إنه بعث إلي من لدن الشيخ عبدالقدوس، ما كنت أجد الوقت لمعرفة ما بداخله، وقد عرفت فيما بعد عندما امتطيت متن الطائرة، أن الأمر لا يتعلق بما سماه الشيخ عبدالقدوس «الشيء البسيط ،» ولكنه كان «شيئاً مركباً » يضبط الأوقات، وبعضه الآخر يساعد على كتابة هذه المذكرات!!.
لقد أجاب الشيخ عن تحيتي بأحسن منها! كنت أهديته محفظة جلدية من صنع فاس، فساعدني زميلي هذا على «هدايا السرور » التي كانت تنتظرني، كنت فعلاً أفكر في بنيتي الجديدة (آس):
إن يكن عهدك ورداً
إن عهدي لك آس!!
فــإلى لِقــاءات بإذن الله
وفي الساعة الواحدة بتوقيت المغرب بينما كان أذان العصر يدوي في جدة كنا في المطار نشهد جوف الطائرة، وهو يثخن بالأغراض التي صحبها الحجاج معهم، لقد كان على الطائرة ألا تحمل كل هذا العفش، ومع ذلك فقد رضخت؛ لأن أحداً لم يسمح بأن يركب، ويترك متاعه للطائرة القابلة!! على أن في الحجاج من أرغم على ترك زمزمياته الكبيرة. وطال انتظار الطائرة ففسد الطعام المعد لعشائنا فيها!، وصعدنا متن الطائرة في أول من دخل لاختيار الأماكن المناسبة.
وفي الساعة الثانية بتوقيت المغرب، أخذت الطائرة في التحرك، المضيفان يبذلان الجهد لإطفاء غلة الحجاج بالمياه الغازية الباردة، وكان آخر ما رأيناه من هذه الأراضي المطار العسكري، وقد حاولت أن أستسلم للمنام بعد هذه «الهد ةَّ » الميمونة الظافرة وبعد توعك يوم عاشر يونيو 1959 م بالمدينة المنورة أخذنا الطريق المستقيم توا إلى المغرب عبر أجواء بنغازي، لقد وجدنا هنا بعض الصحف المغربية، النضال، والمغرب العربي، قرأنا في الأول نونية للأخ الشاعر عبداللطيف خالص في رثاء شيخنا سيدي المدني ابن الحسني، وكنا قد سمعنا عن منع عرض فيلم جميلة بوحيرد بالمغرب، ونحن في جدة، لكنا رأينا في )العلم( إعلاناً عن الفيلم في سينما )الأطلس(، وقرأنا كذلك مجلة الإذاعة الوطنية، ثم تصفحنا مجلة باري ماتش، ثم جريدة فرانس سوار عدد23 يونيه 1959 م، لقد أخبرت عن موجة الحرارة التي اكتسحت فرنسا: 23 درجة! وخلفت أحد عشر ميتاً!! ترى لو عرف هؤلاء أرقام الميزان في جدة؟.
مُحرّك يقف!
وبينما نحن في غمرة هذه المسليات سمعنا عن صوت المضيف يخبر أنه في الساعة كذا والدقيقة كذا ستنزل الطائرة في بنغازي، إلى آخر ما أعطى من معلومات، لكن لم يمر قليل من الوقت حتى أضاف الربابنة: لقد عطب جهاز في الطائرة أدى إلى تعطيل أحد المحركات.!! وخاف بعض الناس، وتساءلنا هل ما يزال الوقت المحدد للوصول محترماً؟ فأجابونا: إن هناك تغيراً بسيطاً. وهنا ساد صمت هائل، وغاب عنا المضيفون تجنباً لكثرة السؤال، ونصحنا أحدهم ألا نشرئب لرؤية هذا المحرك، وقد سأل السيد البكاي: هل سنبقى في بنغازي طويلاً لتصليح العطب؟ فأجابوه بأن الإصلاح لا يتطلب أكثر من ساعة! ثم أخبرنا بأن نزولنا لا بد أن يتأخر أيضا ساعتين!!، وقد طلبت إلى الربان أن يبرق إلى سفارتنا ببنغازي بل وإلى وزارة الخارجية فيها يخبرها بوقت الوصول المحدد، لقد أمسينا نؤمن بأن العودة أيضاً من )البيت العتيق( فيه من شق الأنفس «لَمْ تَكُـونُــوا بَـــالِغِيهِ إِلّاَ بِشقِّ الْأَنْفُسِ » ]سورة النّحل آية 7[ كما ورد في الكتاب.
لم يشعر الناس بقابلية للعصرونية بعد هذا الحادث، ولا للنوم، وإنما لتلاوة القرآن وللتوسل! هل سبق أن تم مثل هذا؟ وأجابنا مضيف: نعم، وكان الدواء هو في الرضا بالوصول متأخرين!! وقد جعلني هذا الفراغ أشعر بضرورة تسجيل ما أودعته من عفش بالطائرة، وكان في ذلك خير، فلقد ضاعت منا بعض الأغراض، لم تضبطها إلا هذه المذكرات، نعم كانت عندي حقيبة خضراء كبيرة، )صاكوش( أزرق دمشقي، وخنشة تحتوي على سجادات، و) 25 ( لتراً من زمزم، أما ما كان معي فهو حقيبة صغيرة فيها هدايا من ذهب وأحجار كريمة، ثم الشكارة التي تضم مصحفي ومذكراتي وزادي من الدولارات الباقية، هذا إلى رسائل كنت صحبتها معي من المغرب لبضع السلاويين بالقاهرة إذ كنت أظن أن رجوعي قد يكون عليها.
إن صلتنا بالربابين أضحت وطيدة، نسأل فيضطرون للجواب، إن فيهم )سريني( القائد و)بيكافو( المساعد و)بنول( الراديو و )بلاك فان( ميكانيسيان، و)سورا( كذلك ميكانيسيان، والأخوان ابن سعيد ومحمد العلوي مضيفان، إننا في حاجة لأي شيء نقتل فيه وقتنا،وقد أعطوني هنا كذلك )مجلة باريز( العربية فاشتغلت بها، ومما قرأت فيها حديث عن العلم والعلماء يؤكد أن العمل الفكري أصبح مشكلة العصر الحاضر، وأن ( 54) في المائة من الأساتذة مصابون بمرض العصاب NEVROSE( (، على الأساتذة أن يجتنبوا الاصطياف في الأماكن المرتفعة، فارتفاع ) 1700 ( متر عن سطح البحر متعب للأعصاب، على المثقف ألا ينزوي بل عليه أن يشارك في الرحلات، ويعيش في المحيط الذي يدور به، على المثقف أن يقوم بعمل يدوي وبدني.
وبعد ساعات طويلة سمعنا: «نحن نقترب أيها السادة من مطار بنغازي فشدوا أحزمتكم، ولا تدخنوا مادامت الأضواء مشتعلة » وفي الثامنة و 40 دقيقة وطئت الطائرة الأرض فشكرنا الله على نجاتنا!.
في بنغازي
وجدنا هنا رجال وزارة الخارجية الليبية مشكورين، ينتظرون في سرب من السيارات الرفيعة، فرق محسوس بين مناخ ومناخ، تنسمنا البحر المتوسط هنا، إن علينا أن نقطع (18) كيلو متراً بين المطار وأوتيل (بيربينتش)، على العكس من مطار جدة الذي يوجد تقريبا في صميم المدينة، وصعدنا إلى الغرفة وكان معي الأخ الحاج المكي بادو، كل فراش نصبت عليه(ناموسي) تحفظ النائمين من غزو الناموس.
وصلنا متأخرين للفندق، ولهذا فإن وقت العشاء راح! الأستاذ محمد ابن موسى والضابط سالم الحصين الليبيان اللذان رافقانا من المطار أوعزا بإحضار بعض الخضروات والمجففات.
وقد أشرقت الشمس فرأينا من النافذة زرقة المياه، لكن كسل المتوسط في مثل هذا الفصل معروف، فأمواجه تعبانة، أبرقت إلى زوجتي الثريا أطمئن الأسرة بعد أن علمت أن الطائرة التي كانت تقلنا قد أقلعت فارغة للإصلاح بالجزائر ونحن في انتظار أخرى!. لقد تلقى الرئيس البكاي رسالة من المسيو FAVROUS يتأسف للعطب الذي طرأ على الطائرة، ويؤمل أن تصل الطائرة الجديدة صباح الجمعة، وفي هذه الأثناء خرجنا إلى السوق، رأيت إخواننا هناك يرتدون عوض «سلهامنا » بالمغرب «الجردة » وهي من نوعه وشكله، وقد سموها )الحولي(، ولقد التحق بالفندق بقية الحجاج الذين ظلوا في المطار.
وقد علمنا أن السيد عبدالمجيد كعبار رئيس الحكومة الليبية سيتفضل بزيارتنا مساء اليوم، وقد كانت لنا جلسة مسائية مع أستاذي القديم عبدالهادي الشرايبي القائم بالأعمال على طيراس الفندق أخذنا فيها المعلومات مرة أخرى عن ليبيا، سكانها ثرواتها ميزانيتها، وكانت مناسبة للوقوف على العدد الأخير من النشرة التي تصدرها السفارة المغربية هنا. .
(1) وسق: حمَلَ.
(يتبع)
الجُزء الحادية عشر