فَـوجئنا عنْدَمــا حَضرَ الغذاء بأننا أمـامَ طَــواجين مغربية صميمة…
جريدة طنجة – محمد وطاش ( .مؤسسة عبد الهادي التّـازي. )
الخميس 08 أكتوبر 2015 – 17:07:19
•بمُباركة وتَزكية من رئيس مُؤسسة عبد الهادي التّـازي، الأستاذ يسر التّـازي، نواصل نشر سلسلة حلقات كتاب « التحليق إلى البيت العتيق «لمؤلفه/الفقيد العزيز المرحوم الدكتور عبد الهـادي التّـازي أمطره الله بشآبيب رحمته، وجعل كل حرف من حروف هذا الكتاب وسائر عطاءاته في ميزان حسناتهِ. ويستعرض هذا الكتاب مذكرات للفقيد سَجّلهــا إبــّان موسم حج 1959 م.
فقراءة ممتعة.
عند سُمو ولي العهد مــرّة أخرى
سألته عن العَدد الحقيقي للحُجّـاج هذا العــام فذكر أنه «ستمائة ألف ومائتان »: منها 270.000 من الخارج،350.000 من الداخل، أقل من حجاج العام الماضي. جاهرت سموه حول بعض الانطباعات التي تكونت لدي، فتحدث لي بصراحة نادرة عنها، قال: «إن في النية إقفال باب الحج في مواعيد معينة رغبة في معرفة ما علينا من واجبات؛ حتى نقوم بخدمة الناس على ما يجب، ولقد حاولنا منذ هذا العام تطبيق هذا، ولكن مع الأسف وصلتنا في آخر لحظة يوم ثامن ذي الحجة برقيات من بعض دول عزيزة تطلب فسح المجال لستمائة حاج!، فما عسانا نقول لناس صمموا العزم على زيارة هذه الرحاب، صعب جداً التحكم في مشاعر المسلم من طرفنا وحدنا «وقد كان يشير إلى أن العبء يجب أن يتحمله كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد أسْدَينا لـلأمير آيـات الشُكر، واستـأذنــا.
إن الذبائح ما تزال آثارها على الطريق، وبعضها أمام الناس في الخيام، ويلاحظ فعلا أن جانبا من التبعة يلقى على كاهل الحجاج، ففيهم من يحضر، وهو لا يملك غير ما يركب به! وما يشتريه هنا من أغراض وهدايا، وفيهم من يتعشق الاقتصاد ويؤثر التقشف على جانب التوسع، لقد رأيت من نصحه الطبيب بشراء قطعة ثلج يجعلها على رأسه، ولكن استعظم ثمنها بالرغم من أنه يتوفر على الوسيلة.
رجْم الشَيْطـان من جديد!
ورحنا إلى رمي الحجرات الباقية ) 21 حصاة(، تمسك الحصاة بين السبابة والإبهام، وأنت تقول: «الله أكبر! الله أكبر! طاعة للرحمن ورجماً للشيطان وحزبه! اللهم اجعله حجا مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً.. .» إن أصداء الإصابات تتوالى، لقد التجأت لدار المغرب عدة أسر تطلب الإسعاف والإيواء؛ لأنها لم تستطع تحمل أوار الشمس الذي يخترق منفذ ستائر الخيام لينزل على الرؤوس مضاعف الأثر..!! كان يخيل إلى أذني ونحن نرمي الجمرات أن برداً متوالياً ينزل في عنف على سقوف، أو أن حبوبا تحمص وتقلى، الوقعات متعاقبة، هذا إلى صفارات الحرس الذي وقف مشرفاً على الجمهور ينبه المبالغين، فإن في الناس من يرمي بحجرة وليس بحصاة! وفيهم من يرمي بنعله!.
استشهاد العَمّة حبيبة!
وإلى جانب ما سمعناه عن استشهاد السيد الفروي و الد صديقنا ومضيفنا بالمدينة، وعن إصابات أخرى وأخرى، إلى جانب هذا أبلغت أن العمة لالة حبيبة أصيبت، وأنها نقلت على عجل للمستشفى، فأسرعت مع الدكتور مولاي أحمد العراقي إلى هذا المستشفى بمنى، وقد كان وقوفنا على هذا المستشفى مما زاد في رعبنا فعلا.! إن المصابين يتقاطرون بالعشرات، وليس هناك بقعة من أرضه تكفي لموضع قدم! كنا نتعاون على قطع الطريق للبحث عن هذه السيدة، لقد وقع بصري على غرفة كبيرة عن يساري، تحتوي على نحو من ثمانين حوضا مملوءاً بماء مثلج، يعوم الممرضون فيها الملفوحين المصابين بضربة الشمس INSOLATION ، فإذا ظهر بعد وقت أن في المصاب أملا حمل إلى غرفة )المؤملين(، وهم عشرات يعانون سكرات الموت، يصيحون في أص وات غريبة ما سمعتها في حياتي:
غرغرة وحشرجة، أصوات أقرب أحياناً إلى أصوات الطيور والحيوان منها إلى الإنسان!! لحظات لصقت بذاكرني!!. وفي الناس من أذعن واستسلم، على أن في المصابين طوائف أخرى عدت في الميؤسين وهناك غرفة أخرى خصصت للمنتعشين، ولكن هؤلاء كانوا في حكم المغشى عليهم.
بحثنا في كل الأركان وبشجاعة مكرهة (بفتح الراء) مكره أخاك لا بطل، إن الدكتور العراقي وهو على ما عرفنا غلب على أمره، وطلب إلي أن نخرج! لكني رجوته في الصبر، فلا هي في «المعومَّين » ولا في «المؤملين » ولا في «المنتعشين » بل ولو مع «الميؤسين »! بحثنا هناك وهناك وبعد حين سألتنا إحدى الممرضات: هل هي نظيفة؟ بيضاء؟ قصيرة؟ قلت: نعم، قالت: كانت تعبانة وممكن أنها أعطتكم عمرها!! )تعني ماتت(، ومن هنا هرعنا معها إلى إحدى الممرات، هنا وجدنا أحد المكلفين يبحث عمن يعرف «مراكشية » توفيت الآن! فأسرعت نحوها كاشفا عن وجهها فإذا بها الشريفة (الحاجة) لالة حبيبة، على أنفها أثر دم، لقد أسلمت الروح لخالقها قبل أذان المغرب بنصف ساعة ) 11:30 ( بتوقيت الحجاز على ما قلناه، قال لي الذين حضروا وفاتها: إنها لما شعرت باضطراب الحال وكانت واعية سلمت على الجميع، وطلبت إليهم أن يقرؤوا سلامها على الكبير والصغير، ولما اشتد بها الأمر أخذت تنادي: «عيطوا لي على لالة منى!! » أي نادوا لي لالة منى لعلها كانت تناجي هذه البقاع الطاهرة، قبلت جبينها، وقرأت عليها بعض الآيات، تقبلت التعازي وكانت في الواقع تسليات: «إن النبي كان يتعشق تربة منى، ويلذ له أن يقضي فيها مناسكه .»
لقد زرت بعد هذا أقرباء لنا في خيامهم بعد أن سمعت أن من أسباب انهيار العمة نقل المطوف لها من البيوت المسقفة إلى الخيام المستهدفة! بعض السيدات الفاضلات من بيت ملين بالرباط ممن غلبن على أمرهن طلبن الالتجاء إلى غرفة بدار المغرب، فرجوت الدكتور الزعري أن يحضرهن من خيامهن، لكنه لما راح إلى المكان، وسأل عن السيدتين المتعبتين المقصودتين قامت اثنتان في سرعة وادعتا أنهما المقصودتان فوردتا واحتلتا الفراشين المعدين للمتعبتين!!.
إن البيت لم يعد خاصا بالمغاربة، فلقد هجم الناس عليه من كل حدب وصوب، فإن سمعة البعثة الطبية المغربية كانت بحق رائعة، إن الحرارة في إصرار »40 درجة في الظل، وإن الجراد يملأ فضاء منى، ويكثر حديث الناس عن هذه الانهيارات التي تسمع هنا وهناك، وكثيراً ما صممنا العزم على مكاشفة أولي الأمر في ألا يسمحوا أبداً بالحج للضعفة، والعاجزين والمرضى. كان الدواء الذي نستأنس به ونحتمي به هو الكينا حبوب فيتامين حبوب الملح، هذا إلى الأسبرين، ويمتاز اليوم الذي لا ننسى فيه حبوب الملح بأن الشره إلى الماء يخف، هي بالذات ملح ولكنها مغلفة بحيث لا يشعر الإنسان بمذاقها على اللسان.
هل الحج مؤتمر؟!
وثمة سؤال سجلته لا بد لي أن أردده، هل الحج ساعدنا في التعرف على شخصيات إسلامية عالمية؟ إننا إذا توخينا الصراحة في القول، لا نملك غير القول بأن النتيجة كانت سلبية! ليس فقط بالنسبة إلي في هذا العام، ولكن بالنسبة للكل وفي سائر الأعوام.
التي جمعت ببعض الناس نجد أنفسنا كأننا لم نخرج من المغرب! إن كل قطر يلتئم حجاجه ببعضهم، يرون ذلك واجبهم. فهم عند مطوف واحد، أكلهم واحد، لا يفترقون، حديثهم في نفس المستوى والموضوع الذي كانوا عليه في بلادهم، وأنكى من هذا وأسوأ أن الناس الذين هم من القطر الواحد هم أيضاً فرق وجماعات، فأهل هذه المدينة لا يتعرفون على أهل المدينة الأخرى، وحجاج تلك القرية لا يخالطون حجاج القرية الأخرى، وبعد هذا فإن الطبقات الثرية قلما تستمع إلى الآخرين! أو تجتمع إليهم، وهكذا فلكل وجهته، وإنما الناس يؤدون هذا الواجب وهم في نظري على الأقل بعيدون كل البعد عن كل فكرة توحي بالتعارف والتآلف! وحتى الوفود الرسمية لا تتعارف فيما بينها، لا يعرف أحد مكان الآخر، وكأنه لا يهمه أن يعرف، لقد طلبت رؤية وفد من بلاد، فتلقيت سؤالاً غريباً عن سبب وموضوع الزيارة، وكنت مضطراً لسحب الطلب!!.
إن مما فكرت فيه وجوب توزيع أسماء الوفود على الأقل بعضهم على بعض، واعتقدت أن ذلك ينبغي أن يكون من حسنات استقبالات الجهات السعودية، وشيء آخر لا بد أن لا أنساه، فإن هذا التجمع ولو أنه تلقائي أو مفروض إذا شئت أن تقول كان يمكن أن يكون مناسبة للدولة المضيفة لنشر أكبر عدد ممكن مما يمس التعريف الدقيق بهذه الأراضي، ويمس نشاط الحكومة مثلاً، أريد أن أقول: إن على أجهزة الدعاية أن تعرف عدد الحجاج ليصبح أو يمسي عند كل واحد منهم صحيفة أو كتاب، إن الدول تبعث بنشوراتها إلى البلدان النائية لتكتسب الذكر، فما بالك ببلاد تتقاطر عليها تلك البلدان النائية بنفسها، أفليس خليقاً أن تستثمر هذه المناسبة أحسن استثمار؟.
وداع الجمرات
وقد زرنا أحواض الجمرات الثلاثة مرةً أخيرة يوم ثاني عشر من ذي الحجة، وقد لاحظنا أنها أي الأحواض أترعت وتكدست بالحصى، إنها تناهز ثلاثة وأربعين مليوناً وأربعمائة ألف حصاة! إن على كل حاج أن يقذف بسبعين حصاة، وإن عدد الحجاج على ما عرفنا أليس كذلك؟.
وداع منى
وقد رجعنا إلى مكة المكرمة، وبما أننا قطعنا مترين ونصف بالسيارة في حوالي ساعة، فقد قررنا نحن ثلة من الإخوان: العراقي بادو، وجمال الدين نجل السفير أن نقطع المسافة على الأقدام، لقد وصلنا البيت قبل السيارة، وكانت أثمن هدية اكتشفناها هنا قطعة من ثلج في «الفريجيدير .»
وعلى العادة لم نفتأ عاملين على الاتصال بكل من نشعر فيه برغبة اتصال، فاجتمعنا هذا الصباح بالأستاذ الطيب بن عيسى صاحب جريدة المشير والوزير، وقد كان ضمن أعضاء الوفد التونسي، وقد قصدنا بعد تبادل بعض الحديث المسجد الحرام لأداء الجمعة، وقد حمل الخطيب بشدة هذه المرة على «الفرق والشيع »، ودعا الناس إلى نبذ التفرقة، وأعاد إلى أذهان الناس أن الحج يتم هنا، وأن الصلاة بالمسجد الحرام لا تعادلها حتى الصلاة بمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ) 8(. ولكن لم يفته التصريح )بأن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليست من الواجب في شيء، وشكك في الحديث المروي: «من زارني في قبري فكأنما زارني في حياتي، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي »، قال: إنها آثار متكلَّم فيها( ) 9(. وكان منظراً مؤثراً وداع بعضهم لبعض بعد الصلاة، إن كل غريب سيرجع إلى وطنه.
أخذنا نفكر في الرجوع وفي «الإكراميات » التي سنؤديها للذين كانوا يلازموننا، فعلاوة على 80 ريالاً سعودياً لسواق كل يوم لا بد من «بقشيش » إضافي!
في ضيافة السيد الحريري
ومن أصدقاء السفارة هنا الأستاذ محمود الحريري الذي عزمنا على الغذاء في بيته بمنطقة جرول، وهو الآن من كبار موظفي وزارة الداخلية، ومن أعضاء لجنة توسعة الحرم، لقد كان فيما ذكره من مغريات أن بيته (مكندش) مكيف، ورحنا عنده، كانت قعدة من أمتع القعدات، تفيأنا في ظلالها، وفينا من استسلم لنوم لذيذ على هذه «التهويات »، وقد فوجئنا عندما حضر الغذاء بأننا أمام طواجين مغربية صميمة، فهذه «التفايا » والدجاج بالليمون والزيتون والكسكس بالزبيب والحمص، إيه ذا؟ لقد علمت أن زوجته مغربية الأصل، وأنه اقترن بها بمناسبة قيامها بمناسك الحج، لقد تحدث إلينا الأستاذ الحريري كثيراً عن مشاريع التوسعة، وقدم لي مشكوراً بعض الخرائط والتصميمات الخاصة لهذه البقاع، كان أصيلا بديعاً نعمنا معه بالراحة، ولقد أتممت الدفتر الأول من مذكراتي هنا، وكنت قد صحبت معي الدفتر رقم ) 2( تمنى لي مضيفنا محمود أن أتمكن من زيارة المسجد الثالث/المسجد الأقصى، فتتحقق بذلك أمنية الجمع بين رؤية المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال( 10).
العمرة بعد الحج
وقد يسر الله فقمنا في مساء هذا اليوم نفسه بأداء شعيرة العمرة، تهيأنا للذهاب للتنعيم حيث قمنا بالتعليمات المطلوبة، وهكذا ففي الساعة العاشرة كنا بمسجد الجعرانة حيث دخلنا كما فعلنا عند الحج من باب السلام، مروراً بركن الحجر الأسود والرجوع على الممرات نفسها التي سلكناها في الحج، لقد استغرقنا في الطواف هذه المرة خمسين دقيقة، وقد كانت فرصة للتملي مما نحن على وداعه مشرفون. وقد تمكنت هذه المرة تحت حماية ذراعي الدكتور الخطيب من تقبيل الحجر الأسود عدة مرات، وبعد أن صلينا عند مقام إبراهيم اتجهنا نحو زمزم حيث «دوشنا » من جديد وتضلعنا منه كذلك، ومنه خرجنا للمسعى بفوطنا المبللة! حيث قضينا في المسعى ساعة وخمس دقائق، كان مما لم أستطع ترك مذكرتي تمر دون تسجيله عليها بعض المناظر التي نتمنى مخلصين ألا تبقى، سيارات خاصة تمر بالمسعى تقطع على الناس خشوعهم وتبتلهم بما ترسله من «كلاكصونات » مشينة! حقا إن الأثر يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سعى على المطايا، ولكن أي فرق بين المطايا؟ وبين الظروف والظروف؟ وبين السابقين واللاحقين؟! وصلنا للبيت «مهدودين » على حد تعبير صغيري أوس عندما تحول عنده النطق من «حجة إلى هدة »!! اللهم اجعلها عمرة بارة. .
(يتبع)
هوامش :
(8) لأن الصلاة بالمسجد الحرام تعادل مائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد النبوي تعادل ألف صلاة.
(9) ممن تكلم في هذه الآثار السخاوي في كتابه: المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تعليق عبدالله الصديق، ص 410 ، دار الكتب العلمية، وهذه الآثار تتراوح بين كونها موضوعة أو ضعيفة.
(10) كان مقدرا لي أن أزور المسجد الأقصى في السنة نفسها يوم أول سبتمبر 1959 م عندما شاركت في المؤتمر الثقافي العربي الرابع بدمشق، أغسطس سبتمبر 1959 م.