{ربّ ابن لي عندك بيْتــًا في الجنّة) .. المشمولة برحمة الله الدكتورة آمنة اللوه
جريدة طنجة – عبداللطيف السملالي ( . الدكتورة آمنة اللوه. )
الإثنين 21 شتنبر 2015 – 17:50:21
• من جميل الذكريات ولطيف الأحاديث التي تمتعك بها سيدة الأفضال والفضائل الدكتورة أمنة اللوه رحمة الله عليها، كلما جمعك بها مجلس، أو التقيت بها في محفل علمي أو منتدى أدبي، حديثها المشوق عن دارها التي وهبتها لعمل تربوي هادف مبني على القرآن الكريم وعلومه، تنفيذا لوصية لم تحد عنها والتزام لم تتردد في الوفاء به، عقدته مع قرينها الأستاذ الأديب إبراهيم بن علي الإلغي الدرقاوي )ت 1405 هـ/ 1985 م(، وتلك الدار هي التي كان الزوجان الراحلان يأويان إليها كلما حلا بمدينة طنجة، وبها كان معتكف الدكتورة آمنة السني، تلجأ إليه كلما حزبها أمر أو أحست بضغوط نفسية ألمت بها، تخلو فيه إلى نفسها الليالي والأيام ذوات العدد، مستغرقة في التأمل والتدبر في ملكوت الله، وتتفيأ في محراب الذكر والتذكر ظلال الأنوار الربانية والإشراقات النورانية، وحديثها عن هذه المكرمة التي بادرت إليها لا ي مُلَُّ، وسردها لتفاصيل هذا الحدث التاريخي الذي أوقع أثراً عميقا في نفسها لا يسأم المرء من الإصغاء إليه، وظلت تعتبر هذا الحدث محطة فاصلة في حياتها.
وذاك العمل العظيم الذي أقدمت إليه كان هو ديدنها في كل المجالس، ولا تفتر عن الدعاء والتضرع إلى المولى تعالى أن يجعل لها بهذا العمل المبرور بيتا في الجنة، وهو عمل جليل لا ينهض به إلا الأصفياء من عباد الله ممن أيقنوا كل الإيقان أن ما عند الله خير وأبقى، و)ما عندكم ينفذ وما عند الله باق(. وحديثها في هذا الموضوع ضرب من الكلام الحلو المكرر، والمكرر أحلى، تطرب الآذان لسماعه وتتشوق إلى معرفة المزيد عنه، فقد أوتيت رحمة الله عليها بلاغة السرد البهي وجمال التعبير الصادق عن خلجات نفسها الشفافة المطبوعة بنفس صوفي راق، اكتسبته من الصحبة المثالية لزوجها إبراهيم الإلغي: ابن البار للزاوية الإلغية الدرقاوية.
و ما زالت السيّدة آمنة…تثير إعجابنا ودهشتنا..سواء تحدثت بلسان عربي مبين..أو كتبت ببهاء لغوي وجماليات ألفة عن سيرتها الفكرية وموقفها من العـالـــم..( على حد الوصف الجميل الذي عبر به الصديق الدكتور عبداللطيف شهبون عن كتابات ومواقف الأستاذة الراحلة. و من بديع رسائلها رحمة الله عليها خطاب لطيف وجهته إلى العلامة سيدي عبدالله كنون )بتاريخ 17 مارس 1987 م(، وهو يومئذ رئيس رابطة علماء المغرب، وكانت تجمعه بقرينها الأستاذ الإلغي علاقة ود وإخاء مثاليين، تجيش تلك الرسالة بالمعاني السامية، وتطفح بالأحاسيس الصادقة والمعبرة عن نشوة السعادة والحبور التي حييت لحظاتها النورانية، يوم تم تدشين العمل التربوي الهادف بمنزلها العامر.
والجدير بالتنويه أن الدكتورة آمنة اللوه رحمة الله عليها، قبل تسليمها الدار إلى جمعية التوعية الإسلامية، قصد إصلاحها وإدخال التحسينات عليها، في دجنبر 1986 م، عقدت اتصالات عديدة وباشرت استشارات كثيرة هنا وهناك مع علماء ومفكرين و مع خاصة معارفها، حول الخطوة التي ستخطوها، وتستطلع أحوال الأشخاص الذين سيضمون أيديهم إلى يدها لإقامة صرح علمي شامخ يشع نوره على هذه المدينة، وكان العلامة عبدالله كنون رحمه الله هو المستشار الأمين الذي التجأت إليه، و)ما خاب من استشار وما ندم من استخار(، فأوقد ذاك العالم الجليل جذوة الحماس في نفسها، وأكبر عملها وحثها على المضي في مشروعها، مزكيا أعمال الجمعية المذكورة )تأسست في رمضان 1402 ه/ يوليوز 1982 م(، من خلال سعيها الحثيث إلى خدمة القرآن الكريم، ونشر قيمه، مثنيا على خصال أفرادها ونبل أخلاقهم. وقد جاء في رسالتها إلى العلامة سيدي عبدالله كنون الآنفة الذكر:
« .. صدقني سيدي، يخُيَلَّ إلي أن ما حدث يوم ]السبت 7 رجب 1407 ه[ 7 مارس 1987 م ) يوم تدشين العمل في المنزل المذكور( قد غي رَّ مجرى حياتي، وطه رَّ نَي من الأدران المادية، وي خُ يَ لَّ إلي أيضا أن الأنوار الربانية قد أشرقت علي فمحت ما بالنفس الأمارة من ظلمات واكتسحت بوهجها المقدس بقايا حياة لاهية عابثة كانت ما تزال ترتع في ثنايا الأعماق..
عشت لحظة من السعادة الحَقّــة، ورشفت من رحيقها الذي أسكرني كما سكر بها قبلي أهل التصوف، وهم يعيشون مراقي الحب الإلهي إلى حيث الوصول والفناء إلى حيث سدرة المنتهى..)رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه..(. إنني أطمع وأحلم، والحقائق وليدة الأحلام، أن تكون هذه المؤسسة مصدر نور إسلامي يشع على هذه المدينة طنجة التي أحبها زوجي كثيراً.
أحلم أن تعيد هذه المؤسسة لتقاليدنا دورها ووهجها، هذه التقاليد التي طغى عليها «التغريب » وجار عليها فاندثرت أو تكاد.. .»
ولما كانت ذكرياتها الجميلة مع هذه المكرمة ت سُتعاد لحظاتها بين الفينة والأخرى، وتفاصيل عرضها تقدم من زوايا مختلفة، التمست منها في إحدى المرات كتابة سطور عن كيفية انبثاق فكرة جعل هذا البيت بالذات مركزا للدراسات الإسلامية، وكيف سلمته إلى جمعية التوعية الإسلامية.
ولم تمض إلا فترة وجيزة عن ذلك الالتماس حتى تلقيت من قبلها رحمة الله عليها، وهي ما تزال تقيم في مدينة الرباط، بخطاب رقيق جاء في بعض سطوره: « .. فتلبية لرغبتك في معرفة الأسباب التي انبثقت فكرة وقف )داري( بطنجة على الدراسات الإسلامية، والظروف التي واكبتها، يسعدني أن أبعث إليك بهذه الوريقات التي حاولت فيها أن أوضح الفكرة لتكون على بينة منها وفي معرفة الأطوار التي مرت منها إلى أن استوى عملا قائما يؤتي ثمره بإذن الله.. .» وبين سطور تلك الأوراق )بلغ مجموعها 7 ورقات( تلمس صدق إيمان المرأة ورسوخ عزيمتها في مواصلة العمل، والوفاء بالعهد الذي قطعته مع نفسها في تنفيذ وصية زوجها، وصلابة المواقف التي لا تلين أمام المثبطين الرّامين ثنيها عن تسليم تلك الدار لتكون مركزا للدراسات الإسلامية، ووضوح رؤية العمل الذي عاشت من أجله وناضلت في سبيله، واختلفت مع محيطها في سبيل إنجازه.
وشحت تلك الوريقات بالآية الكريمة: ) رب ابن لي عندك بيتا في الجنة( من سورة التحريم. الآية 11 . وجعلتها عنوانا لموضوعها، فما أجملها من قصة تقرأ بين سطورها لعمل مبرور بادرت إليه سيدة محسنة كريمة، وأقبح به من سلوك يسعى أفراده بكل جهودهم لتقويض ما وهبت له تلك السيدة المؤمنة خاتمة عمرها، كانت ترجو لعملها إشعاعا يعم نوره المدينة بل كافة البلاد.
وفيما يلي نص ما خطته بقلمها السيال سيدة الأفضال الدكتورة آمنة اللوه، جدد الله عليها الرحمات وبوأها من الجنان أعلى المنازل، وحفظ لها بيتها ليبقى منارة العلم والعرفان بامتياز كما كانت تأمل له. آمين.
في إحدى هذه الجلسات، وكانت في طنجة) 2( ، وفي هذه الدار بالذات، فاجأني بقوله:أتريدين بيتا في الجنة ؟ أجبته وأنا جذلى: ومن منا لا تتمنى أن يكون لها بيت في الجنة.حتى المكرمون في القرآن الكريم يتمنون ذلك، فهذه امرأة فرعون تناجي ربها: )رب ابن لي عندك بيتا في الجنة( ) 3( ، قال والرضى باد على وجهه: إن كنت تريدين ذلك حقا، فأوقفي هذه الدار أو قصرك الصغير هذا على القرآن الكريم والدراسات الإسلامية وبذلك تضمنين لنفسك بيتا في الجنة وتؤمنين لنفسك صدقة جارية تنفعك في اليوم الذي لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. فوجئت بهذا الاقْتراح، فقد استشعرت عظمة الفكرة، ولم أكن أنتظرها فكان تعليقي: نِع مْ ما أشرت به علي .َّ. وقبل أن أُتم كلامي، أسرع يقول: إذاً فأنت اقتنعت بالفكرة، فعلى بركة الله…. كنت أعرف أنه قبل ذلك كان يسعى لتوظيف الدار موضوع الوقف في مشروع تجاري تعليمي ي دُر علينا دخلا إضافيا، وكنت أعرف أيضا أنه كان يجري اتصالات مع ذوي الخبرة في هذا الشأن… وآخر من اتصل بهم بعض الإخوان العراقيين المقيمين في طنجة من أجل الشراكة في مشروع مدرسي كان يخطط له بجد ..
ولكنه وبكيفية غير منتظرة، تخلى عن الفكرة، فكرة التجارة، ولم يعد يهتم بها، فقد صدم بالنوايا غير الحسنة عند كل الأشخاص الذين فاتحهم في الأمر، واستنتج بحدسه الذي لا يخطئ، أن الحوار معهم لا فائدة ترجى منه، والتعامل معهم لا يجدي، شخصيا أعتقد أن هذه المثبطات التي صدته عن المشروع التجاري يمكن أن تنطبق عليها الحكمة القائلة: رب ضارة نافعة !
انصرف عن المشروع التجاري نهائيا لفترة طويلة إلى أن فاجأني بالسؤال المذكور آنفا ! ومر عام أو أكثر على الاقتراح الذي ألقى إلي به في الجلسة التي احتضنتها طنجة، قضاه في إصلاح البناية وإضافة قاعات جديدة إليها وإعدادها لتكون صالحة للتدريس.
وأدركتنا عطلة الصيف، صيف 1985 ، قضيناها في إسبانيا وبالتحديد في منطقة الأندلس.. تفقد خلالها كل الأماكن التي سبقت لنا زيارتها في فترات سابقة، و وقف على بعض المآثر العربية وأنشد فيها أشعارا رقيقة مؤثرة يتذكر فيها أياما جميلة قضيناها بين أحضانها في ماضي العمر) 4(..هل كان يشعر بدنو الأجل ؟ وكان ينوي زيارة البرتغال أيضا.. ولأن علامات الإعياء كانت بادية عليه، فقد رجوته أن تقتصر عطلتنا على إسبانيا، ونؤجل زيارة البرتغال إلى فرصة أخرى..وقد استجاب لرغبتي.. وعدنا إلى المغرب، وفي طريق العودة إلى الرباط )وكان ذلك يوم الخميس 12 شتنبر 1985 ( التفت إلي وكان يسوق السيارة بنفسه، وسياقة السيارات كانت إحدى هواياته وقال في نبرة حادة وحاسمة:
لا يمكنك أن تتصوري مدى رغبتي في أن أرى المشروع وقد تحقق..
لذا فبمجرد وصولنا إلى الرباط سأتصل بالأوقاف لتسوية قضية الوقف المتعلق بدارك بطنجة ، ثم استدرك قائلا: ولكن ليس الآن، فجل
الوزارات الآن في عطلة وسأنتظر عودة الموظفين والتحاقهم بمكاتبهم لأباشر الموضوع مع الوزير..وأضاف: البناية وما يحيط بها من حديقة و أراض كلها ستحبس على الدراسات القرآنية، باستثناء الدار الموجودة فوق البنك )كان هناك بنك في الطبقة الأولى( فستبقى على ذمتنا، وذلك من أجل المشاركة في العمل ومراقبة سيره والتأكد من التزام الذين سيشرفون عليه بكل البنود المتفق عليها..أجبته: حسنا ستفعل بإنهاء قضية الوقف، والله يحقق المراد .. ولكني أرى أنه قبل ذلك يجب أن ندرس المشروع جيدا وبكل التفاصيل، ونضع الخطوط العريضة لمنهج العمل التعليمي،عند ذلك نقدم الملف جاهزا و بكل الشروط التي يجب أن تلتزم وزارة الأوقاف. قاطعني بحدة: ذلك عملك أنت، فأنت التي ستضعين البرامج ومنهجية العمل وتسهرين على تنفيذه، بعد أن يبدأ العمل في المؤسسة. وأضاف: ألست خريجة كلية التربية وعلم النفس؟.
أدركت أنه مصمم على إنجاز الوقف في أقرب وقت وقبل أي تخطيط..لذلك رأيت أنه من الأفضل أن نغير دفة الحديث، فقد قرر ولا فائدة من النقاش..فلو تماديت معه في النقاش، لأو لَّ ذلك بأنه تراجع مني عن الوقف لا قدر الله!
واصلنا السير وأنا مأخوذة ومبتهجة بما سمعت، وأخذت أفكر في المسؤولية التي حملني إياها، مسؤولية إعداد دراسة وافية عن المشروع القرآني ..
الهوامش :
1. كنموذج، أذكر هنا أبياتا قالها ونحن نتناول شاي العشية بتطوان المحروسة:
حضر الشاي فكبيه بأكواب هنية تصرف الهم وتأتينا بأنس في العشية أو قوله ونحن في إحدى جلساتنا اليومية :
ليت هذا العيش يصفو مثل صفو الثغر منك
ليت هذا الدهر يبقى غافلا عني وعنك
إلى غير ذلك من الأشعار الرقيقة التي كانت تزين جلساتنا التي لن تتكرر أبداً..!!
2. كانت طنجة قريبة على نفسه، تستهويه، وفي الأيام الأخيرة كان مدمنا على زيارتها، والإقامة بها وخاصة بعد شرائنا الدار التي تمتاز من بين ما تمتاز به، بموقعها الرائع المطل على البوغاز .. وصارحني عدة مرات بأنه يريد الاستقرار فيها وخاصة بعد تقاعده .. ولم يمنعه من ذلك إلا ارتباطي بعملي الرسمي في الرباط، وكثيرا ما كان يمازحني قائلا : لماذا لا تطلبين التقاعد النسبي؟ كفاك عملا، فقد قدمت لبلدك ما يكفي، فمنذ نعومة أظفارك وأنت تعملين بكيفية لا تعرف الكلل..وآن الأوان لتستريحي وأستريح معك ونستقر في طنجة…أحيانا كان يخشى ألا أوافقه على الاستقرار في طنجة، وبروحه المرحة يقول: لا بد أن نرحل عن الرباط ونستقر في طنجة، وإذا لم توافقي على طنجة فسيكون الاتجاه نحو أكادير وبها يكون الاستقرار .. فتخيري ..!
3. سورة التحريم. الآية: 10
4. كنموذج لهذه الأشعار أثبت هنا بعض المقاطع يقول في أحدها تحت عنوان : كأس الذكريات قدم لها بما يلي: « زار الشاعر وزوجته قصور الحمراء، وتوقفا عند بهو السفراء يستذكران أيامهما الأولى، فأنشد مرتجلا :
انظري للبهو يا أنس الحياة وهو يلقانا بكأس الذكريات
يوم أن كنا نزلنا دوحه في غداة العمر، أنعم من غداة
هي عندي ليلة القدر كما وصفت «خير من ألف » ومآت
وفي قصيدة أخرى أقتطع منها هذه الأبيات :
ولا بد من عودة تستعاد إلى حيث مختلسات الفؤاد
نصوغ الحياة وصفو الزمان وإشراق نجم المنى والمراد
وبسمة عمر وبهجته[ نعم، ذكريات لنا تستعاد
بغرناطة.. كلأتها العيون وجادت عليها الغوادي الجياد
بحيث استهل سنا حبنا وذقنا بها العسل المستجاد
وعشنا بها ومضات الهنا[ نشاهد.. حب لنا في ازدياد
ألا تذكرين حبيبة روحي يوم حللنا بها من بعاد
أتينا على صهوات الغيوم نسرع لا صهوات الجياد
لننزل جنة عدن بها أعدت لنا دون باقي العباد
ونمرح في جنبات «العريف » زهوا .. تباركنا في تناد
…………
ألا تذكرين.. ألا تذكرين ألا فلتجيبي ورب العباد
بلى قد ذكرت.. معاذ الهوى أكون بناسية أو أكاد
إلى غير ذلك من القصائد والأشعار الرقيقة التي قالها في كل زيارة لنا إلى الأندلس.
(يتبع)