وكم كُنّا نضطّر لوَضْــع الأوعية المملوءة بالثلج على رُؤوسنا …
جريدة طنجة – محمد وطاش ( .مؤسسة عبد الهادي التّـازي. )
الإثنين 21 شتنبر 2015 – 17:28:17
•بمُباركة وتَزكية من رئيس مُؤسسة عبد الهادي التّـازي، الأستاذ يسر التـازي، نواصل نشر سلسلة حلقات كتاب « التحليق إلى البيت العتيق «لمؤلفه/الفقيد العزيز المرحوم الدكتور عبد الهادي التازي أمطره الله بشآبيب رحمته، وجعل كل حرف من حروف هذا الكتاب وسائر عطاءاته في ميزان حسناتهِ. ويستعرض هذا الكتاب مذكرات للفقيد سَجّلهــا إبــّان موسم حج 1959 م.
فقراءة ممتعة.
هذا يوم التروية: غسل الكعبة (8 من ذي الحجة = 13 / 06 / 1959 م)
الوفود الرسمية تتجمع هنا وهناك، أما أستار الكعبة فقد خملت )شمرت( هذا الصباح كأنما تستعد هي للتروية! ولم نفتأ ونحن ننتظر مقدم العاهل نكرع المياه تلو المياه.
وقد دخل الملك بعد انتظار، لقد كنا مخطئين في الوقت الذي سببه اختلاف الساعات! طاف بصحبة الأمراء وأعضاء الوفود، ومن ثم نصب السلم على باب الكعبة، تذكرت سلم الطائرة عندما يقرب إليها لصعود الركاب أو نزولهم، إن الباب يعلو نحو المترين على أرض المطاف، ويحضر بنو شيبة الذين يملكون مفتاحها حتى الآن، لا ينزعه منهم إلا ظالم. سبع درجات في السلم صعدنا بعد بني شيبة، وشيخ الزمازمة، ومعهم المحظوظون من الذين يحملون المكانس، نفذنا إلى قلب البيت الحرام.
تجولت ببصري، على الرغم من زحمة الوقت وفرحة المناسبة في المكان. لقد علقت بأعلى السقف بعض المباخر فيما أرى، ووضعت في الوسط بعض الزمزميات والأواني الفضية، الأرض المفروشة بالرخام،أما الجدار فنصفه الأسفل رخام والأعلى زرابي فاخرة تستر الجدار كتب عليها )لا إله إلا الله محمد رسول الله(، كانت نسيجا من القز الخالص المزركش بالذهب الإبريز.
صلينا ولله الحمد وله المنة ركعتين نحو لوحة نقش عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. هذا المكان بالذات الذي صلى فيه الرسول الأعظم والمسؤولون ينبهون عليه، كانت الركعة الأولى بسورة الإخلاص والثانية بأية الكرسي، وبعد الصلاة تلوت في مصحفي آيات من القرآن «وبشر الذين أمنوا وعملوا الصالحات »)سورة البقرة آية 25 (، المكان حار، وزادت في حرارته أنفاس الموجودين هنا، ولو أن عددهم محدود! إن أي قوة لا يمكن أن تسيطر على اندفاع الحجاج. ولذلكو وتجنبا لتسلق بعض الناس إلى داخل الكعبة ينحى السلم، ومع ذلك كنا نشاهد من يحاول أن يقفز أو يطير! كل منا مشغول بنفسه، يغتنم، يبكي، يصلي، رأيت منى يصيح داعيا: «اللهم اقبض روحي إليك في هذا المكان » ثم ينهار!! نعم لقد اقترب موعد الغسل، وتقدم بنو شيبة للملك فأداروا على النصف الأسفل من عبايته شبه فوطة مطرزّة تحفظه من تناثر الماء، وأخذت المياه تنقل على الرؤوس من زمزم، والملك يكنس الأرض بيده، وقد وزعت المكانس الأخرى على الناس على حسب مراكزهم في البلاد، وكانت المسابقات على الكنس حادة، وكثيرا ما كنا نفرغ المياه على إحرامنا!!.
وبعد هذا أتى دور تضميخ جدار الكعبة الداخلي بالعنبر، وكلما مرت يد بعطر مرت أيدي بعدها تمسح هذا العطر، وبعد هذا استأذنا جلالة الملك حيث نزلنا الأولين، ولشد ما فوجئنا بالناس المنتظرين تحت، يتهافتون علينا للتبرك بنا وبثياب إحرامنا، كنا نسمع في بداية الأمر كلمات التهاني لكنها تحولت إلى نتف الثياب لأخذ بعض القصاصات، والشيء الذي كنت أخشاه أن تنكشف عوراتنا أمام الناس! ولهذا أسرعنا في سيرنا نحو الرباط المغربي.
لقد رجعت متعباً جداً، بل كنت مهدداً «بلطشة » شمس، كنت أشعر بأن مخي يغلي كأنما هو في مرجل! وكم كنا نضطر لوضع الأوعية المملوءة بالثلج على رؤوسنا بين الفينة والأخرى.
إن الهلكى لا يخلو حديث من ذكرهم! وصفارات الإسعاف لا تريح، وباقتراب يوم عرفة يزيد اكتظاظ هذه البقاع الشريفة.
إن الذين يزيدون في تعقيد العمليات هنا هذه الكميات من المجاورين الذين يردون على هذه الديار ولا يعودون! أذكر على سبيل المثال أن هنا بمكة أزيد من ثلاثين ألف أفغاني مجاور على ما قيل لنا! رفضوا الانصياع لأمر المغادرة، ولما هددوا بسجنهم تساءلوا: أين يقع هذا السجن؟ فقيل لهم: في ضواحي مكة، ففرحوا؛ لأنهم مهما يكن سيبقون تحت سماء الحرم الشريف!!.
عند بني شيبة وبعد جولة قصيرة في السماء بالأسواق، وزيارة لاقصيرة للحاجة رحمة، كان علينا أن نسلم صلة من جلالة محمد الخامس إلى آل بني شيبة، فلما طلبنا إليهم موعداً «عزمونا » على العشاء )بكسر العين( معهم في الحضرة، أعني أن نصلي أجمعين هنا مشرفين على الكعبة، وكانت مأثرة فعلا، حضرت لديهم بصحبة الأخ المكي بادو.
دعوا لجلالة الملك، وجرت بعض الأحاديث. ولما توضأت سمعتهم يقولون: «من الزرقاء »* وكانت مناسبة لذكر الآداب السائدة هنا في المشرق، فإن أهل المنورة يقولون للمتوضئ: «من زمزم إن شاء الله!ء وعليك أن تجيب: «صحبة » يعني أجمعين، والمصريون يقولون: «حرماً »! وستجيب جمعاً، أما هنا فالتمني: «الزرقاء » وهي بالمدينة.
أدينا صلاة العشاء، ليس للإمام الذي يصلي بالناس مكان معين، فأحيانا يقف خلف مقام إبراهيم وأخرى أمام باب الكعبة. منظر رائع لهؤلاء المصلين، وهم يتجهون جميعهم نحو الكعبة محتفين بها، وعلى إثر السلام قدم لنا السادة كأساً مثلجاً من ماء زمزم.
وقد وعدنا هذه «الحضرة » شاكرين، واتجهنا نحو الرباط. وفي طريقنا صادفت الشريفة لالة حبيبة: عمة زوجتي، كانت تائهة ضائعة مع رفيقتين معها فساعدناها على الوصول إلى مطوفها السيد عباس الحريري، وقد أسديت لها نصحاً ألا تغامر بالتعمق في الدروب والأسواق، وألا تتجاهل التعب الحاصل من كثرة التجوال.
استشهاد الفقيه الخياطي ) 8 منذي الحجة = 14 / 06 / 1959 م(وفي رجوعنا بالليل سمعت عن إصابة الفقيه الخياطي المكناسي، وأنهم ينشدون طبيبا له، الفقيه الخياطي من رفاقنا في الدراسة بجامعة القرويين من فاس، وهو الآن أستاذ بمعهد مكناس، من خيرة الناس وفضلائهم، كم قضينا معه من فترات أثناء الطلب، أشعرت زميلي الدكتور مولاي أحمد العراقي بالأمر، رحنا للبحث عنه، كان مستحيلا أن نتعرف على المكان، إن الذين أخبرونا بأمره لا يوجدون، وقد بعثنا برسالة مع أحدالذين سمعوا عنه نذكر أننا على استعداد طوال الليل لتلبية الطلب، وقد تلقينا إشعارات بالليل، ولكنها لم تكن منه، وقد فوجئنا صباح اليوم 8 من ذي الحجة بأنه محتضر، وأنهم حملوه إلى الرباط أعني رباط المغاربة نزلت لعيادته لكنه لم يبق طويلا، لقد أسلم الروح بين يدي، وأنا أتلو القرآن.
إنها «لطشة » شمس سببت له رعافاً، واستحال الأمر إلى حمى، لقد أمسى معها أزرق اللون أسوده، توفي في الساعة السادسة إلا ربعا بتوقيت المغرب، لقد استغفرت الله له، وأديت واجب حمله إلى المكان المعد. لقد سمعت عن دكتور أجنبي أخذ منه بالأمس زهاء ثلاثين ألف فرنك مقابلة حبوب أسبرو! المحزن إلى جانب هذا أن أذكر أن رفاق الفقيه زارونا بعد أداء الحج ) 16 من ذي الحجة = 23 يونيه( وقدموا لنا تقريراً بما كان اصطحبه الشهيد معه من المغرب من مال، وما وجدوا بعد الوفاة شيئاً!.
إن اليوم يوم زحمة؛ لأنه يوم تنقل الناس إلى منى. معنا الرئيس البكاي الذي يلزم الفراش هو الآخر، لم يكن هناك من الوقت ما يسمح أبداً إلا بالتفكير في الرحيل إلى منى، «ونفسي نفسي! » هي شعار الناس في مثل هذه الظروف.
وبعد أن كنا نعتزم الالتحاق بمنى صباح هذا اليوم أرجئ ذلك إلى ما قبل الغروب تجنباً لوهج الحر، إن «كيتي كولا » هنا هو المنعش المفضل، وأذكر أننا في أثناء هذا الانتظار لم نفتأ نحل المشكلات الطارئة، إن في أبرز ما علق بمذكراتي قصة الفقيه ابن داود ابن خال والدي الذي سرقت منه ستون ألف ريال سعودي، عندما، كان «هائماً » ينتعش بدوشات زمزم التي كانت تصب عليه، لقد كان يحتفظ بهذا المبلغ كله في الحزام التقليدي للحجاج، ولم يشعر إلا بأنه افتقد الحزام وافتقد معه المال! ما زلت صورته أمامنا يبكي!! لقد زودناه ببعض ما يبلِّغه.
وبين هذا وذلك فإننا لا نفتأ نتأنس ب «واعظ الركب » الذي كان يتوفر على كتاب يخفي عنا عنوانه، يقرأ فيه قليلاً وحده، ثم بعد حين يضع أمامنا نازلة من النوازل أو أسئلة اقتبسها من الكتاب المذكور الذي لم يكن إلا كتاب )فقه السنة(!.
«مرور الرداء من تحت الإبط الأيمن وأخذ طرفه وجعله على الكتف الأيسر، وترك الكتف الأيمن عارياً، ماذا يسمى هذا؟! يسمى عند علماء الشريعة: الاضطباع بتقديم الضاد على الطاء »، هكذا يجيب الواعظ بعد أن يعجز الناس عن جوابه، وهكذا دواليك، وفيما نحن بين دروس الوعظ إذا بذبانة خيل تقع علي، وما شعرت حتى حاولت أن أهوي عليها، لكن الواعظ نبهني إلى الفرق الموجود بينها وبين «الوزغة » التي قتلناها بالأمس!. التوجه إلى منى وخرجنا lن باب الرباط إلى منى بعد العصر، إن الأخ عبدالنبي )أو عبدالغني كما يبدله بعض أهل مكة!(دائماً في صحبتنا، كانت أسراب من الجراد تداعبنا أيضاً في هذا الجو الحار.
إن المسافة فقط خمسة عشر كيلو متراً، لكنا قضينا فيها أزيد من أربع ساعات! آلاف الحاملات والشاحنات، إلى جانب الراجلين والراكبين عل الدواب، إن كل حاج عليه أن يتجه هذا الاتجاه، والكل مضطبع، وأخيراً وصلنا إلى منى بعد اجتياز عدة مضايق، لكنا وصلنا قبل الموعد الذي حدثونا به لحسن الحظ، هذا عالم من المضارب البيض، عشرات الهكتارات مغطاة، إن المكان عبارة عن سفح أكمة، المقام المعد لنا يعتبر في منى من أفضل البقاع وأطيبها، نزله عدة رؤساء، المناخ طيب بالنسبة إلى مكة خاصة بعد غروب الشمس، ارتفاع منى عن سطح البحر أكثر من ارتفاع مكة، بمجرد ما ألقينا عصا سيرنا رحنا للجولة، للوقوف على المواقع التي ترمى بالحصيات والتي نسميها بالجمرات هذه الجمرة الصغرى، أقرب إلى شكل معصرة زيتون من الطراز القديم، عبارة عن سور مستدير وقد انتصب وسطه جدار قائم، عليه تنصب الحصيات تواليا، يوجد الآن خط مرور للذاهبين للجمرات وآخر للعائدين، وتلك خطوة مثلى في سبيل التخفيف من فوضى المسير، ثم زرنا الجمرة الوسطى الدائرية أيضا المصبوغة هي الأخرى بالأزرق )النيلة( ثم زرنا الجمرة الكبرى )جمرة العقبة( وهي نصف دائرة.
لكل الدول هنا بعثاتها الطبية التي تسهر على راحة الحجاج، وتتضاعف أعمال الممرضين والدكاترة كلما وصل الناس إلى منى، أو اقتربوا من يوم عرفات، لقد سمعنا عن عدة إصابات، ورأينا عدة انهيارات، وقد زرت العمة لالة حبيبة بصحبة الدكتور العراقي بعد أن بلغني عنها أنها منهكة، فاستبشرت وطلبت إلي أن أحضر لها حليباً ودواء.
وقد زرنا مسجد الخيف حيث صلينا المغرب والعشاء في نفس المحراب الذي صلى فيه الرسول عليه الصلوات وقد كان مما حز في نفوسنا مناظر على طول الجدار الخارجي للمسجد، فإن الحجاج يتخذون من هذه الأرض مكاناً لقضاء حاجتهم! وقد كانت الروائح تؤذي الآذان قبل الأنوف!! قاذورات يجب أن تتنحى عن هذه الأمكنة بأي ثمن!.
وقد كان فيما تعتاد رؤيته هنا هذه الشاحنات المائية الكبرى التي يتقرب بها بعض المحسنين لله بهذه المناسبة، لقد كتب على بعضها )سقاية الحاج( هدية من السيد… من لاهور في الباكستان،و)الكلاكصونات( هنا أيضاً تخرق طبلة الآذان، وحتى الحمير تحمل عدة أجراس تسمع نقرها من بعيد، كانت ليلة بيضاء لم ننعم فيها بمنام؛ لأن النوافذ تقع على الشارع الرئيسي لمنى، ولهذا فكل صوت لا بد أن ينفذ إلينا!.
*( يقصد بالزرقاء أو «الزركة » كما ينطقونها عينا بالمدينة المنورة، وهكذا فإن من بالمدينة يرجو لك أن تنعم بماء زمزم في مكة، ومن في مكة يتمنى لك أن تنعم بماء الزرقاء في المدينة، ومن خارج الحرمين يقول لك )حرماً( أي تنعم بالوضوء في الحر.
(يتبع)
الجُزء الثامن