كنا نتوضأ بالماء وكأنّه كـانَ موضوعاً في قَدر على النَّـار…
جريدة طنجة – محمد وطاش ( .مؤسسة عبد الهادي التّـازي. )
الأربعاء 30 شتنبر 2015 – 17:28:17
•بمُباركة وتَزكية من رئيس مُؤسسة عبد الهادي التّـازي، الأستاذ يسر التـازي، نواصل نشر سلسلة حلقات كتاب « التحليق إلى البيت العتيق «لمؤلفه/الفقيد العزيز المرحوم الدكتور عبد الهادي التازي أمطره الله بشآبيب رحمته، وجعل كل حرف من حروف هذا الكتاب وسائر عطاءاته في ميزان حسناتهِ. ويستعرض هذا الكتاب مذكرات للفقيد سَجّلهــا إبــّان موسم حج 1959 م.
فقراءة ممتعة.
إلى عرفات
إن السرادق المغربي كان فخماً، كانت رقاعه من اللون الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق، وقد نصبت في صدره صورة لصاحب الجلالة الملك محمد الخامس، والسرادق مكلل بالرايات المغربية ذات اليمين وذات اليسار، إن الكل متعب، ولذلك فقد قصد الناس المخدات والفراش.
ولقد نصبت هنا بين دروب المضارب مراحيض ضماناً لراحة الناس، ولكنا كنا مضطرين لمساعدة الرئيس البكاي الذي كان متعبا جداً بالإضافة إلى ساقه المبتورة.
إن أدعية الناس هنا غريبة، ولا للمتعة أن تصيح بآذانك لتسمع وسائل الناس في خطابهم مع ربهم، لقد سمعت من يقسم على الله بقوله: اغفر والله لابد أن تغفر!!
اللحظات الضارعة
لقد اقترب العصر، وكل من في الخيام أخذ يتجه نحو القبلة، نحو الله، يدعو له وللذين حملوه أمانة الدعاء لهم في هذا الموقف العظيم، لقد صلينا الظهر والعصر قصراً وجمع تقديم كذلك، إن الحرارة تصل تحت المضارب إلى ) 46 ( ونصف درجة مئوية، كنا نتوضأ بالماء وكأنه كان موضوعاً في قدر على النار، جلّنا يتناوب على جعل الطاقيات المثلجة على رأسه حتى الحاجة شاكرة كريمة السيد الفاطمي ابن سليمان! لقد انتقلنا بعد الصلاة من شعيرة «التلبيات » إلى شعيرة «التسبيحات » سبحان الله والحمد لله، وبين الفينة والأخرى كان بعضنا يذاكر البعض الآخر، فإن المطوف في هذه الساعات المحدودة يريد أن يعرف نوع «مخالفات » الحجاج.
ليتسلم منا المبالغ التي تكفي للهد يْ: دماء جبر «المخالفات »، فمن مفضل للجمال، ومن مقتصر على الكباش إلخ. إن بعضنا يقف ليقدم العون للرجال الذين يثبتون الخيمة خوفاً من عبث العواصف التي هبت، إن الموقف جد، وقد يسر الله لي فكانت هذه اللحظات هي التي ختمت فيها تلاوة المصحف، لقد وصلت إلى نفس الآيات التي بدأت بها وأنا على متن الطائرة }يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم{ ]سورة الأعراف آية رقم 35 [ إلى قوله تعالى }وبشير لقوم يؤمنون{ ]سورة الأعراف آية رقم 188 [ بمصحف لي صغير مكتوب بخط مغربي، إن أصيل تاسع ذي الحجة مشهود في هذه الديار! ما نسيت لو أنسى هذه اللحظات الضارعة الباكية التي تجردنا فيها عن العالم الذي نعيشه وتقمصنا روحانية ما كان ألذ الغيبوبة فيها! وكلما اقترب موعد الغروب تعالى الناس بأرواحهم يتوسلون، وتبودلت التهاني عند الغروب، إننا جديرون منذ اليوم بحمل لقب «الحاج » اللهم اجعله حجاً مبروراً لا رياء فيه ولا سمعة.
وبسرعة أخذ العمال يجمعون السرادق ويلفونها لعام قابل، إن هذا السهل الذي يقع على أقدام جبل الرحمة كله يموج من جديد بالشاحنات والسيارات لأخذ الطريق إلى المزدلفة.
المزدلفة
وتحركت السيارات، كنا مكان تكريم من لدن الحرس النجدي الشهم. إن وفد ملك المغرب موفور الاحترام، لقد ودعنا مسجد نمرة، وإن مذكرتي من الآن ستكتب فقط على ضوء السيارات المتوالية التي تتحرك شبراً شبراً، وأخيراً وطئنا أرض المزدلفة. إن الحديث عن هذه الطريق أطول من نفس الطريق، لأن المسير كان في منتهى الصعوبة والوقت ليل، الأضواء تتلأ لأ عند المشعر الحرام، لقد التقطنا على ضوء القمر الجميل هنا سبعين حصاة استعداداً لرجم الشيطان) 5( سبعة للغد، ثم ) 21 ( لكل يوم من أيام التشريق الثلاثة، فإذا كنا من المتعجلين كان علينا فقط أن نستعمل تسعاً وأربعين لحظات فريدة زاهرة، إن السفير الفقيه غازي متعب، ولذلك فقد «اكتتبنا » له بنصيب من الحصيات، وهنا في المزدلفة جمعنا المغرب والعشاء جمع تأخير، إن تعاليم الإسلام حول «جمع التأخير » كانت صائبة، لأن الزمان المادي فعلا لا يسمح بغير ذلك. إن كثيراً من شعائر الحج من باب التعبد المطلق الذي لا مجال لاستخدام العقل فيها أكثر من اللازم، وإن أسرار العظمة تكمن أحياناً في تمثيل من غير أن تسأل عن: لماذا هذا الامتثال؟ بعد صلاة العشاءين كانت ساعتنا تشير إلى السادسة وسبع دقائق، كانت منى تتجلى عروساً بما تحلت به من لآلئ، ليلة ما ذقنا فيها النوم إلا لماماً، إن الشارع بات يرقص بالحاجين والحاجات، وقد ظلت صيحات المتاجرين سواء بالثياب أو بالزبادي والمبردات تنفذ إلينا، وكذا فإن صيحات الإسعاف هي الأخرى لازمت طوال الليل
تهنئة الملك وولي العهد بالعيد السعيد
وقد افتر ثغر )منى( عن يوم عيد الأضحى، الناس في طريقهم إلى رمي الحجارة على الجمرة، ولقد رمينا الشيطان بسبع حصيات بعد أن أرشدني السفير الفقيه غازي إلى مكان الرجم، وتكثر في هذه الزحمات بعض المحاولات للنشل! لقد شعرت بأعور ذي وفرة اغتنم فرصة غيبوبة الشيطان تحت تأثير الرجم وغدا هو شيطاناً يتسلل إلى الجيوب!! لكن يسراي كانت موضوعة على «النصيب »، واستطاع هذا الأعور أن يختفي تحت رحمة الزحمة، وينساب في جماعات أخرى، ومع أن العقاب الذي تنزله السلطات السعودية عن حق وعدل بهؤلاء الانتهازيين شديد، ومع ذلك لا بد أن يسيل الطمع لعاب بعض الشرهين!.
والمظلات هنا نقمة عامة إلى جانب نعمتها الخاصة، فكل واحد يحمل مظلاً ولكل مظل نهاية حادة كالرمح وكثيراً ما تؤذي الناس في هذا الممر المحدود الذي يكون على كل الحجاج أن يسلكوه ) 2( ليرجموا الشيطان. إنه يوم صعب بحق، ولذلك فإن الخطر فيه لا يقل عن يوم الأمس إذا لم يكن يزيد عنه، وفي الناس من يصر على رمي الحجارة ولو أنه يعرف أنها لا تصل الهدف، وقد سمعت رنة حجر أخطأت هدفها وضربت رأس واعظ الركب! وبعد هذا يتعرض لك الحلاقون بمقصاتهم المفتوحة ينادون: «فك إحرامك يا حاج! فك إحرامك يا حاج! » إنه مشهد فريد. وقد كان الدكتور العراقي هو الذي فك إحرامي كما كنت الفاك له، ومنظر آخر يلفت نظرك ولكنه ليس بنفس الحدة التي كان عليها منذ زمان على ما حكوا لنا، منظر هذه الذبائح التي توزعت أشلاؤها هنا وهناك، لقد أخذت أتساءل: هل من الصواب أن تنشأ معامل لتصبير اللحوم هنا حتى لا تضيع هذه الذبائح، وحتى لا يحرم منها آلاف الضعاف ممن يتضورون جوعاً في بعض الجهات؟ (3 ).
فإلى مكة مرة أخرى
وبعد هذه اللحظات قفلنا إلى مكة، إن الطريق قصير ولكن طويل، في الناس من زهد في السيارة وقطع الطريق على قدميه فوصل قبل الراكبين، أمواج متلاطمة من القوافل، وصلنا مكة، وبعد طواف الإفاضة، أسرعنا إلى المرايا للحلق، التحلل الأصغر، منذ سبعة أيام لم نقترب موسى أصبحنا وكأننا ناس آخرون، ذكرت قول أخي الحاج عبدالله ملين لحكاية عن الحطيئة الذي «يرى له وجهاً شوه اله خلقه ». كان الطواف هذه المرة شاقا جداً وخاصة في المسافة التي بين مقام إبراهيم والكعبة، لأنها تضيق من بقية المسافات، وهكذا يزدحم الناس عليها، وكم استشهد هنا من حجيج!. كنت إذا ما اقتربت إليها أسلمت نفسي، لا أكلفها محاولة للخطى فأحمل بين الناس، ويدفعني الناس حتى أجد نفسي في الشاطئ الآخر!! سمعت عن محاولة السعوديين بنقل مقام إبراهيم عن موضعه حتى تتسع المسافات، وذلك عملاً بالفتوى التي تعتمد على إيثار المصالح، لكن في الناس من وقف ضد هذه الفتوى معتمداً على حديث نهشل حول تحديد موقع مقام إبراهيم من الكعبة الشريفة بالأذرع، ومن المعلوم أن مقام إبراهيم وهو عبارة عن حجرة جعلت عليها قبة كان السيل قد عبث به، فلما اعتزموا على بنائه أيام عمر بن الخطاب ذكر أحد الصحابة أن المقياس كان بين المقام والكعبة كذا ذراعاً، لكن أصحاب الرأي بإيثار المصالح يروون تتمة لهذا الأثر أن عمر بن الخطاب كان تحدى هؤلاء المحددين بالأذرع، وطلب إليهم إحضار ما يثبت ذلك فعجزوا.
إن الكعبة أصبحت اليوم، وقد أرسلت ستائرها السوداء إلى الأرض بعدما كانت بالأمس مشمرة. إلى منى من جديد!
وقد صعدنا إلى من جديد، في وقت كان شديد الحرارة، وذلك لأداء الشعائر الباقية رمي الجمرات. إن الماء هنا عزيز، )التنكة( الواحدة بريالين سعوديين، ولكن بدون ظرف طبعا! أذكر هذا مع أن ثمن )التنكة( من البنزين لا يتعدى أربعة ريالات فيها الظرف والمظروف.!!
كم كان يلذ للناس وقد فرغوا من مناسكهم أن يجلسوا للحديث. وكان أسوأ ما في طبائع الناس عند المناقشة أن يبالغوا. كان حديثاً سياسياً حاداً حول الانفصالية والاستقلالية والشعوبية.
لدى جلالة الملك مرة أخرى وقد كان علينا أن نقوم بزيارة للقصر الملكي للتهنئة بالعيد جلسنا في خيمة للانتظار مفروشة بالزرابي النفيسة، الشيخ الحصري الذي دعي من مصر يشنف الآذان بما يتلو، وحوالي السادسة والنصف بتوقيتنا استقبلنا العاهل الكريم في الردهة الخاصة به. جنة فردوس في هذه الصحراء المكيفة! كان يجلس على كرسي غلف بجلد نمر،قدمت إلينا القهوة العربية، وقد تقدم الشاعر الغزاوي فألقى حائية جميلة:
بحمدك ربَّ العالمين نسبح
وفي نعمة الإ سلام بالعيد نفرح
بلى! ما ا ستطعنا فلنكن خير أمة
لهآ من تصافيها السياج الم سلح
كذلك نجني اليوم ما هو غرسنا
وكل إناءٍ بالذي فيه ين†ضح
وكلّ امرئ منهم أخوه أو ابنه
حناناً و إيثاراً بما هو ي سمح
لم أستطع التقاط جميع أبياتها إذ كنا نشغل أحياناً، وقد اجتمعت هنا ببعض الإخوة من الذين تعرفت عليهم في مؤتمر الأدباء، وأذكر منهم الآن الأستاذ عبدالرحمن المعاودة شاعر قطر. .
(يتبع)
هوامش :
(1) الرمي للجمرات، وهي رمز للشيطان.
(2 ) منى( منطقة محدودة المساحة محاطة بالجبال، ومع كثرة الحجاج يزدحم الناس في الطريق مهما كانت سعتها، وقد عملت حكومة خادم الحرمين الشريفين على توسعة المداخل، ووضع الجسور، وإزالة العوائق الطبيعية؛ مما أسهم في انسياب حركة الحجاج في هذه الأماكن.
(3) لعل مشروع المملكة العربية السعودية للإفادة من لحوم الأضاحي، الذي عهد للبنك الإسلامي للتنمية تنفيذه مما حقق ما تمناه المؤلف.