مقابر طنجة …..مكبّ للأزبــال و مواخير للإدمان و الـرّذيلة ..؟ حتى الموتى لم يسلموا من ضعاف النفوس
جريدة طنجة – لـ.السلاوي ( .مقابر طنجة.)
الإثنين 24 غشت 2015 – 09:15:03
“كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا” صدق رسول الله ﷺ
أجمعت الدّيــانـات السماوية، و من بعدها، المواثيق الدولية، على صيانة كرامة الإنسان، حيا و ميتا، تماشيا مع النسق الكوني لحقوق الإنسان، و نصت على تمتيع البشر على حد السواء بحقوقه كاملة، انطلاقا من الحق في الحياة الكريمة، و امتدادا إلى إكرامه ميتا، بسن نصوص و تشريعات تحرم التمثيل بجثثه و النبش في قبره، ودفنه إكراما و إجلالا له.
و لضمان احترام كبير للموتى، جُعلت لهم مقامات و مدافن يوارون فيها الثرى، لها حرمتها و دلالاتها القدسية، لما تكتسيه هذه الأمكنة من أهمية إنسانية و حضارية كبرى، حيث تمثل حالة المقابر مؤشرا على تحضر الشعوب و تجدر القيم الإنسانية في نظرتها للكون و الحياة و الإنسان، و للوقوف و قفة استكشاف لحضارات الأمم السابقة و فهم النسق المجتمعي و الفلك الحياتي الذي كانت تدور في حلقته، و بالتالي لا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال مجالا “ميتا” لمجرد أنها تأوي “الموتى”.
و بمسح جغرافي بسيط لمقابر المسلمين، سواء بالعالم الحضري أو القروي، و نخص بالذكر مقابر مدينة طنجة و التي يقف الإنسان مشدوها من هول صدمة تردي أوضاعها و الحالة المزرية التي وصلت إليها، حيث أضحت مأوى للمتسكعين و المتسولين، و مطرحا للأزبال و مجالا بيئيا لنمو النباتات العشوائية، و تنم حالة القبور المتهالكة و المطموسة المعالم و الأسوار المتهاوية للمقابر، عن رؤية نمطية سلبية للمجتمع اتجاه هذه الأماكن، لاعتبارها أماكن جامدة، لا تحوي الأرض في بطونها إلا جثثا و جثامين لأناس قضوا نحبهم، كما يحز في النفس تحول هذه المعالم التي تعتبر جزء لا يتجزأ من المجال العمراني و الحضري إلى مستوطنات للاهثين عن نشوة معاقرة الخمرة والنبيذ الأحمر و مدمني المخدرات، حيث تشير شظايا و بقايا قنينات الخمر المكسرة بجنبات القبور إلى تنامي هذه الظاهرة، مما يجعل أصحاب هذه القبور عرضة للإهانة بتبول و تغوط المدمنين، عليها و بجنباتها.
كما ظهرت حالات متكررة لنبش القبور من قبل السحرة والمشعوذين، حالات انتهاك حرمة الموتى كثيرة و متعددة، ناهيك عن بزوغ ظواهر غير أخلاقية جديدة و عادات سيئة حولت المقابر الإسلامية إلى أماكن لممارسة الدعارة و الزنا و تبادل لحظات الفاحشة العابرة خاصة عند إسدال الليل لخيوطه، لكونها أماكن مقفرة و خالية و بعيدة عن المراقبة الأمنية، و يلعب غياب حراس رسميين و دائمين للمقابر، دورا بارزا في تنامي هذه الظواهر السلبية، حيث تقتصر الحراسة على بعض المتطوعين الذين يقتاتون و يعيشون على صدقات الزوار و المحسنين.
و يبقى غياب التنظيم في حفر القبور و تهيئتها بسب الاكتظاظ و امتلاء المقابر، سببا مساعدا في انتهاك حرمة الموتى، حيث يضطر حفاري القبور إلى نبش قبور قديمة، انمحت معالمها و سويت علاماتها مع سطح الأرض بفعل الإهمال و عوامل التعرية.
أصبح اليوم التدخل الفوري و العاجل مطلبا ضروريا و استعجاليا، لإعادة الاعتبار للمقابر الإسلامية، مقارنة مع مقابر المسيحيين و اليهود، و التي لا يمكن أن نجد وجها للمقارنة بينهما على أي حال من الأحوال، و ذلك بصيانتها وفق رؤية نسقية و عمرانية تحترم خصوصيات المجالات الحضرية و القروية، و تحترم الأموات من زاوية امتداد عالم الأموات لعالم الأحياء من الركن الديني، و بات جليا تدخل كل الفاعلين لصيانة المقابر و إعادة هيكلتها وفق تصور يحترم أدمية البشر.
إن تردي حالة المقابر، هي مسؤولية مشتركة، تتحملها بالأساس الدولة عبر قنواتها و قطاعاتها الحكومية الوصية على تدبير المقابر، انطلاقا من وزارة الداخلية و المجالس المحلية التي خصها الميثاق الجماعي بمسؤولية نظافتها و صيانتها باعتبارها مرفقا عموميا، و وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية في حماية المقابر من الاعتداءات و الإساءات من الناحية المعنوية و الأخلاقية باعتبارها الراعي الرسمي للشأن الديني، كما تبقى وزارة الثقافة شريكا رئيسيا في عملية الصيانة و التدبير باعتبارها جهة وصية على المآثر و المعالم التاريخية.
حراس متأففون وفقهاء تتدلى لحاهم الشعثة وهم يجلسون قرب أحد مقابر مدينة طنجة، تلفح وجوههم الشاحبة شمس الظهيرة..وفي الجهة الأخرى متسكعون ومنحرفون لا يأبهون بوجود جنازة يجري دفنها”….
تقول أمينة 34 سنة، بعينين دامعتين مسحتهما بسرعة بباطن كفها،وهي تتكئ على قبر زوجها “هنا وضعت أغلى ما عندي منذ أسبوعين،هنا دفنته و إلى الأبد” مستدركة بسؤال مرير ” هل سيسامحني لأنني دفنته في هذه المزبلة”. سكتت طويلا وبدأت فجأة تحرك رأسها يمينا وشمالا دلالة على أنها نادمة، ثم مالت على قبره تقبله، أطلقت تنهيدة قوية لتضيف :”لقد مات زوجي منذ أسبوعين فنصحنا الجيران بمقبرة مرشان ،لأنها قريبة من المكان الذي نقطنه، على خلاف مقبرة المجاهدين ، و تواصل بصعوبة بالغة بسبب أحزان كوت صدرها، فكلما لمست كلماتها ذلك الجرح الغائر الذي خلفه رحيل الزوج الشاب وأكثر من ذلك دفنه في المكان الذي سمته “المزبلة” إلا وانخرطت في النشيج من جديد.
لقاءات عاطفية وممارسات جنسية ورذائل متنوعة كلها تجمعت في مقابر طنجة ..شرب الخمور أو العبث بمحتويات القبر من أجل ممارسة الشعوذة و السحر، يمكن اكتشافها أيضا في المقابر التي يفترض أن لها حرمة, لكنها تحولت في الواقع الى مكان للاختباء لممارسة كل الشوائب..
و للخروج من حالة الفوضى و العشوائية التي يعرفها تدبير المقابر الإسلامية بالمغرب عامة و رد الاعتبار للأموات، و الحد من التطاول عليهم و انتهاك حرماتهم ينبغي العمل وفق خطة تشاركية مندمجة بين القطاعات الحكومية و عموم المواطنين على حد سواء، لوضع تصور شمولي لتأهيل المقابر، باتخاذ جملة من الإجراءات الضرورية المسايرة لتطور العصر، كإنشاء مكاتب خاصة لإدارة المقابر، و تأسيس مؤسسة خدمات الجنازة تقوم بالتنسيق مع الجماعات المحلية من أجل تجهيز الموتى المحتاجين، دون إسقاط الجانب الايكولوجي من الحسابات ، مما يحتم إحداث هيئة مختصة بتهيئة بيئة إيكولوجية جديدة بفضاء المقابر و وضع تصور جديد لمقابر نموذجية.
و يبقى دور هيئات المجتمع المدني في هذا الميدان خجولا في تبني مبادرات لتنظيف المقابر، مما حذا معه تأسيس جمعيات تهتم بالمقابر و الجنائز و تمكينها من الموارد المالية و اللوجستيكية على غرار الجمعيات الصفراء التي تتناسل تناسل الفئران و تلهف الملايير في أنشطة غير ذي جدوى.
لم يتأت إكرام الميت من العبث أو الترف، و لكن من منطلقات قدسية و قيم كونية تصون كرامته، باعتباره كائنا اجتماعيا و إنسانيا، ولأن البشر مهما علا شأنه أو دنى سيلج عالم الأموات و سيرقد في حفرة لا أنيس فيها و لا رفيق، و تبقى زيارة أهله و أقاربه و أصدقائه هي صلة الوصل بينه و بين عالم الأحياء، و لذلك صار لازما توفير ظروف ملائمة و جو مفعم بالخشوع و الصفاء الروحي لزوار القبور يضمن لهم تواصلا روحيا أفضل مع موتاهم، وكذلك فتح مجال التأمل و الاستلهام أمام المبدعين و هواة الخلوات التأملية، و من هذا المنطلق كان ضروريا التفكير في إحداث نموذج للمقابر المقابر و ذلك بجعلها فضاء أخضر يحتوي على مساحات خضراء تضم الأشجار و الأزهار و تشجير جنباتها، و إنشاء ممرات للراجلين و سيارات نقل الموتى و تجميع القبور و ترتيبها في صفوف متماسكة، و تسييجها بأسوار عالية و تعيين حراس دائمين بها و تزويدها بالماء و الإنارة العمومية لتمر الزيارات في أحسن الظروف و ليرقد أمواتنا في سلام .
رحمة الله على أموات لحقتهم أيدي البشر و هم تحت التراب .