حضر الأميرُ بنفسهِ ليكونَ دَليلُنـا إلى بَيْتِ رَسُول الله ﷺ
جريدة طنجة – محمد وطاش ( .مؤسسة عبد الهادي التازي. )
الخميس 13 غشت2015 – 11:20:34
• بمُباركة وتَزكية من رئيس مُؤسسة عبد الهادي التّـازي، الأستاذ يسر التـازي، نواصل نشر سلسلة حلقات كتاب « التحليق إلى البيت العتيق «لمؤلفه/الفقيد العزيز المرحوم الدكتور عبد الهادي التازي أمطره الله بشآبيب رحمته، وجعل كل حرف من حروف هذا الكتاب وسائر عطاءاته في ميزان حسناتهِ. ويستعرض هذا الكتاب مذكرات للفقيد سَجّلهــا إبــّان موسم حج 1959 م.
فقراءة ممتعة.
1959/06/09 (3ذي الحجة)
وبعد البقيع قصدنا مرة أخرى الدار التي كنا نمني النفس بالنزول فيها، قصدناها هذه المرة لتناول الفطور بها، إنها كانت للمرحوم السيد البدوي، وإن أهله ما يزالون إلى الآن بها، «ومن البر إكرام الرجل أهل ود أبيه »، وزيادة على «الطنبلنب » فهناك مراويح وضعت على جانب المخدات والوسائد، صورة جلالة محمد الخامس وسمو ولي العهد، ومعهما صورة أحمد البدوي، إن هذا البيت يجاور بالجدار دار والد الرسول ﷺ ، كانت بيتا لوزير من وزراء السلطان عبدالحميد، تناولنا رغيفا وعسلا أعدته الحاجة العونية.
حاكم المدينة يرد الزيارة
ولم يفت الأمير حاكم المدينة أن يرد الزيارة للوفد المغربي، وقد تم ذلك في أوتيل قصر المدينة في إحدى صالاته البديعة، لقد تحدث لنا الأمير بإسهاب عن مشاريع الحكومة هنا وفي الكعبة، كانت المشاريع بالفعل ضخمة تستحق التقدير، وتمنينا أن نرجع مرة من المرات لنراها منجزة!، إن هذا الفندق لا يحتوي فقط على المراويح، ولكن على «الهواء السائل والهواء المكيف »، وقد اختاره السيد الحاج الفاطمي ابن سليمان سفير المغرب بالعراق للمقام؛ لأنه وهو صاحب 14 حجة يعرف الأركان والزوايا ويحتاط لا قتحامها من ذي قبل ! وفي ظروف حسنة. في الفندق الذي نأوي إليه كنا نؤدي ثمنا باهظا، هذا أيضا إلى المصاريف غير الضرورية التي كنا في غنى عنها لو كان هناك تدبير وتنظيم وحساب!!.
عند السيد العلوي
واستجابة لرغبة السيد العلوي الذي كان مديرا لمدرسة هناك، فقد قصدناه للغذاء، وحضر عدد من المدعوين الآخرين كان فيهم القاضي المساعد للمدينة السيد عبدالمجيد، وعلى العادة جرت عدة أحاديث كان واعظ الركب يتولى فيها الفصل بما عهد فيه من استجهال للناس واستغفالهم، الأمر الذي كان يؤذي إلى الجدال، وأذكر أن الضابط المرافق للوفد كان بين الفينة والأخرى يحاول أن يغير مجرى الحديث فردد كلمات / «لبيك اللهم لبيك اللهم إننا حاجون!! .»
مهما يكن فقد كان غذاء شهيا بذل فيه صاحبه جهدا، ولم يكتف بهذا ولكنه دعانا بعد المقيل لقعدة في الحديقة على شفير صهريج ماء، ولقد استمر هذا الشريف يواصلنا.
سوق التمور
وبعد هذا قمنا بجولة في سوق التمر وهو من أثرى الأسواق، وهنا أيضـًا لا بد أن تسمع الآثار الشريفة عن التمور وأنواعها، هنا العنبري والعجوة والصفاري والشلبي وأصابع العروس، أما البرني فلا بد أن تقتنيه؛ لأن النبي قال: «خير تمركم البرني، يذهب الداء ولا داء فيه.
عشاء أميري ومفاجأة سارة!
وقد تلطف سمو الأمير فدعانا لتناول العشاء معه يوم الثلاثاء. كان قصرا بديعا في العوالي، لكننا والوقت حر جلسنا خارج البيوت في الحديقة حيث فرشت الزرابي و)كنابيات(، إن أصوات )الموطورات( متوالية هذه الليل، وهذا هو الأزيز الذي كنت سمعته أول ليلة دخلت
فيها المدينة، تسألت فقيل لي: إنها موطورات لا ستخراج الماء، وإن أصحابها يتعمدون أن يجعلوا على مداخنها ما يحدث هذا الصوت حتى إذا ما أصاب )الموطور( عطب شعر صاحب الحقل به فأسرع لتصليحه!. تناولنا «أوزي على تمن » خروف مشوي محشو بالأرز، طماطم، باذنجان، باميا )يعني ملوخيا بالمغرب( إلى آخر اللائحة.
تحدثنا ونحن على المائدة حول مشكلة (التوقيت)، وهل هناك مشروع لا تباع الساعة منهجا منطقيا، ثم تحدثنا عن المياه المعدنية الموجودة جهة الظهران التي يقصدها ذوو العاهات الجلدية، وما الضوابط التي تتبعها الحكومة لتحديد مداخل الأهلة، وكان هذا التساؤل نظرا لما لا حظناه من وجود فوق يومين بين الحجاز والمغرب! وكنا إلى هذا اليوم لا نعرف عن يومنا هذا الثلاثاء من ذي الحجة ما هو، هل هو الثاني أو الثالث؟، في حين كنا نعرف فيه أنه أول ذي الحجة في المغرب.
زيارة روضة الرسول 1959/06/10 (فاتح أو ثالث ذي الحجة)
أما المفاجأة السارة فهي أن صاحب السمو أبلغنا بأنه صدر الإذن بدخولنا إلى داخل الروضة، لكن علينا أن ننتظر حتى يخرج سائر المصلين بعد صلاة العشاء، إنها مأثرة كبرى، أحطناها بسياج سميك من الكتمان؛ فإن في الناس من يضحي بأي ثمن للوصول إلى هذه البقعة الطاهرة، أذكر أن بعضا منا أخذ يختار بعض ملابسه أو سجادته ليصحبها معه إلى داخل الروضة من أجل «التزوير »، وفيهم من كان يقصد «تزوير » أكفانه.
لقد حضر الأمير بنفسه ليكون دليلنا إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ﷺ . وبينما كنت أتلو القسم رقم ٢٠ من مصحفي: }فلا تعلم نفس ما أخفي لهم قرة أعين جزآء بما كانوا يعلمون{ ]سورة السجدة آية 17 [ إذا بالأمير يدخل ونتجه بصحبته في صمت تام.
لقد شعرنا ونحن نقترب إلى المسجد النبوي، وحوالينا هؤلاء الأغوات بزيهم الخاص كأنما نقبل على زيارة لأحد العظماء من الأحياء، لقد سمعنا أصواتا من الأغوات كأنما هم في حالة استئذان لدخول الروضة! وفتحت الأبواب باب القبر، وسمعنا، ولم أدر من منا نطق «السلام عليك يا صاحب المقام المحمود ،» كلنا بين باك وواجم وشاهق كذلك، وقفنا لحظات أمام الأجداث الثلاثة محمد ﷺ و صاحبيه، الحراسة تتشدد حتى لا يقتطع أحد الزوار جانبا من ستار، أو يحمل بعضا من أثاث رغبة في التبرك!. فعلا كان التـأثــُر عظيما وكنا أو كنت على الأقل لا نستطيع أن نفتح عيوننا كثيرا أمام هذه الثلة التي دوى صيتها في الآفاق، إن المقام كان رهيبا ومهيبا بحق.
لقد حَملت مَعي ما كانَ لا يُفارقني مصحفي الذي قسمته ثلاثين جزءا يساعدني المضي فيها على حساب أيام الشهور وسجادتي. بيد أن قلمي الأول ووصول الأمير كان فجأة نسيته عند السارية التي كنت أتلو فيها القسم العشرين. مررنا بين مكان أهل الصفة دكة الأغوات وبين الشباك النبوي، ثم رجعنا عن اليمن حيث فتح الباب، إن هؤلاء السدنة بمظاهرهم التي سلف أن تحدثت عنها وبهيبتهم وأصواتهم يضفون على الزيارة مسحة رهيبة، كنا كما سبق أن قلت كأننا بين يدي عظيم يتبوأ كرسيا حاضرا، دخلنا من هذا الباب الخاص وبمجرد ما عرجنا على الركن الأول وجدنا عن اليسار محرابا صغيرا كتب في وسطه: )محمد نبي(، ومن هذا الركن إلى الركن الثاني حيث أسلمنا هذا إلى الركن الثالث، وهنا وقف الأمير ليقدم لنا ضريح رسول الله! لقد كتب على ستاره المذهب هذه العبارة: «هذا قبرك يا رسول الله » ﷺ .
وبعد الدعاء والتضرع تحولنا قليلا إلى قبر أبي بكر الصديق حيث دعونا كذلك ثم ضريح الفاروق، وبعد هذا التفت الأمير ليقدم لنا جهة «مهبط الوحي ،» وكان الدعاء وكان البكاء أيضا، ولم نشعر إلا ونحن عائدون من نفس الطريق وعلى نفس الترتيب، وأذكر أن بعض الحضور ممن «تنسموا » خبر هذه المأثرة، و «اندمجوا » معنا حاول هذا البعض أن يقتطع لنفسه من بعض الخيوط التي تنزل من الستائر لكن الأغوات كانوا له بالمرصاد!.
لقد وجدت بالرغم من أن قَلمي الأول قد نسي قَلمًا احتيـاطيـًا فكتبت بعض التّذْكــارات هُنا، وقدمت بعض الصور لبعض الأحباب.
لم ندر كيف مرت هذه اللحظات العذاب، وقد جلسنا بباب الفندق بعدها نتلذذ ببهائها، ويحكي كل عن مشاعره وإحساساته.
(يتبع)
الجُزء الخامس