شهر الرّحمة مع مُحمد كنون الحَسَني (4)
جريدة طنجة – لمياء السلاوي (. رقائق رمضانية .)
الثلاثاء 14 يوليو 2015 – 14:43:45
• الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد آخر المرسلين و على آله و صحبه أجمعين.
روى أبو هريرة و عائشة رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يَعْتَكفُ في العَشْرِ الأواخِـر من رمضان منذ قدم المدينة إلى أن تـوفــاه الله سبحانه و تعالى، و قال الزهري” عجباً من الناس كيف تركوا الاعتكاف و رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يفعل الشيء و يتركه و ما ترك الاعتكاف حتى قبض.”
و رُويَ عنْهُ صلى الله عليه و سلم أنه إذا دخَل العشر الأواخر من رمضان شدّ المئزر بما ثبت من فضل عظيم و أجر كريم ، و عن فضل العشر الأواخر و استقبالها يحدثنا فضيلة الدكتور، محمد كنون الحسني، رئيس المجلس العلمي طنجة -تطوان ..
فضيلة الـدكتـــور، محمد كنون الحسني، سنُخَصّص هذا الجُــزْء الـرابــع و الأخير للتحدث عن العشر الأواخر من رمضان و ليلة القدر ، ما لنا و ما علينا في هذه الأيام المباركة ، و كيف كان الرسول صل الله عليهم و سلم يقضيها ؟
ولنتيمم في هذا العشر ليلة تفتح فيها أبواب القبول ويمنح السائلون فيها غاية الأماني ومنتهى السول، ليلة اختارها الله على سائر ليالي الدهر وجعلها سلاما حتى مطلع الفجر، ما قام لله فيها قائم إلا ظفر بمطلوبه ولا دعا لله فيها قائم إلا استجاب له في مرغوبه، ولا أناب إليه منيب إلا عجل بمحو ذنوبه، ولا لجأ إليه مكتئب إلا قضى بتفريج كروبه، فلا خير إلا فيها مجموع ولا ضير إلا بها مدفوع، وهي ليلة سبع وعشرين عند أكثر العلماء المعتنين، وفيها قال سبحانه وتعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر”.
ليلة القدر هي الليلة المباركة التي بدأ فيها نزول القرآن على رسول الله ﷺ وسطع فيها نور الفرقان على بني الإنسان وهم أحوج ما كانوا إلى هدايته، وهي إحدى ليالي شهر رمضان، قال تعالى:” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى و الفرقان”، فبين أن الشهر الذي بُدِئَ فيه نزول القرآن هو شهر رمضان، وقـــال في بيان الليلة التي أفاض سبحانه رحمته فيها على خلقه بابتداء نزول كتابه: ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين”، وقال: ” إنا أنزلناه في ليلة القدر”، فبين أن الليلة التي بدئ فيها نزول الذكر الحكيم هي ليلة مباركة أي كثيرة الخير، إذ لا خير أعظم من ابتداء نزول القرآن الكريم، وأن هذه الليلة تسمى ليلة القدر، أي ليلة العظمة والشرف، لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرفه وعظمه بــالرسالة وبالوحي إليه بالكتاب الخالد، الجامع لألوان الهدايات الإلهية التي توصل الناس إلى الحق وتبعدهم عن الباطل وترشدهم إلى ما فيه سعادتهم وبقاؤهم وتحول بينهم وبين ما فيه شقاؤهم وهلاكهم، ومعنى أنزلناه: بدأنا إنزاله في ليلة القدر أو أنزلناه جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل منجما على حسب الوقائع والمطالب في ثلاث وعشرين سنة، ثلاث عشرة بمكة وعشر بالمدينة، ثم بين فضل ليلة القدر ..
فقال: وما أدراك أيها النبي الكريم، أو يا أيها المخاطب المومن ما ليلة القدر، ما الذي أعلمك؟ ماهي ليلة القدر؟ إنها لعلو شأنها وارتفاع درجتها لا تحيط بها الفهـوم ولا تدركها العقول، فلا يعلم ذلك إلا علام الغيوب ومن اختصه الله بذلك، ثم صرح بسبب فضل هذه الليلة فقال تعالى: ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن، خير لمن تعبد فيها ومنَّ الله عليه بها عنده سبحانه وتعالى من ألف شهر تعبد فيها آخرون من السابقين، فقد كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فجعل الله الكريم لأمتهﷺ ليلة مباركة هي خير من ألف شهر كانوا يعبدون فيها، روى مالك في الموطأ أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله ﷺ أُري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم مع طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر، وروي عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ثمانين سنة، فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله ليلة القدر خير من ألف شهر، وزاد في فضلها مضاعفة الأعمال فيها نزول القرآن فيها، وهو أعظم الكتب قال تعالى: “ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم”، فليلة نـُزوله تكون من العظم والفضائل بــالمنزلة العليا والمرتبة الرفيعة، ولو صرف الناس في الحصول على مثل القرآن آلاف الشهور والسنين لم يصلوا إلى مثله ولا إلى مثل سورة من سوره ولا مثل آية من آياته، “قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يـاتــوا بمثل هذا القرآن لا يـاتـــون بمثله ولم كان لعضهم لبعض ظهيرا”.
لذلك كانت هذه الليلة بالقرآن وبمضاعفة ثواب الأعمال خيرا عند الله من ألف شهر ، روي عن أنس قال: العمل في ليلة القدر والصدقة والصلاة أفضل من ألف شهر، وقد اختص الله الأمة الإسلامية كرامة لنبيه ﷺ بتضعيف الحسنات في الليالي والأماكن لقصر أعمارهم وانصراف أغلبهم إلى الدنيا، وحثهم على العناية بتلك الليالي والأماكن لعمل الطاعات وفعل الخيرات لينال الراشد منهم أجره مضاعفا، ولعل العاصي إذا اتجه إلى ربه في ليلة أو مكان منها يتوب الله عليه وينصرف إلى الله بقية حياته.
وقد كَــرّرَ الله ذكر ليلة القـدر ثــلاث مرات ظـــاهرة غير مضمرة فقـــال: “إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر”، إشارة إلى علو قدرها وعظم فضلها والاهتمام بها والانصراف إلى الطاعات فيها، وقد خص الله هذه الأمة بها فلم تكن لأمة قبلها، وكانت في رمضان لقوله:” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن” من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وقد تضافَــرت الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة وعليه جمهور المحدثين والمفسرين وعمل المسلمين إنها في روضان في العشر الأواخر منه، وأنها باقية تتكرر كل سنة مرة، وهي ليلة سبع وعشرين عند أكثر العلماء المعتنين استنادا لما في صحيح مسلم عن زر بن حبيش قال: سألت أبي بن كعب فقلت إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال رحمه الله أراد أن لا يتكل الناس، أما أنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ فقال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها رسول الله ﷺ أنها تطلع الشمس يومئذ لا شعاع لها، وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، وعن زينب بنت سلمة قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه، وعن ابن عمر مرفوعا:”التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين”، ثم ذكر السبب في أنها خير من ألف شهر فقال: تنزل الملائكة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، والروح، أي وينزل الروح وهو جبريل عليه السلام فيها في ليلة القدر يستغفرون للمومنين ويصعدون بأعمال المتقين.
أخرج البيهقي وأبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب له عن ابن عباس مرفوعـًا:” إذا كانت ليلة القدر يأمر الله عز وجل جبريل عليه السلام فيهبط في كبكبة من الملائكة ومعهم لواء أخضر فيركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح منها جناحان لا ينشرهما إلا في تلك الليلة فينشرهما فيتجاوزان المشرق والمغرب، فيحث أي يفرق جبريل الملائكة في هذه الليلة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر ويُصـافحـونهم ويؤمنون على دعئهم حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر ينادي جبريل عليه السلام معشر الملائكة الرحيل الرحيل، فيقولون ياجبريل فما صنع الله في حوائج المومنين من أمة محمد ﷺ ؟ فيقول نظر الله إليهم في هذه الليلة فعفا عنهم وغفر لهم إلا أربعة، فقلنا يارسول الله من هم؟ قال رجل مدمن خمر وعاق لوالدين وقاطع رحم ومشاحن، قلنا يا رسول الله ومن المشاحن؟ قال هو المصارم يعني الذي يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام”.
فـــإذا علمنا أن القرآن الكريم بُدِئَ نزوله في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وأنها ليلة سبع وعشرين فماذا ينبغي لنا أن نعمله في هذه الليلة المباركة شكرا لله على نعمة الهداية العظمى بإنزال القرآن العظيم؟ إن أقل ما ينبغي للمسلم أن يعمله هو إحياء تلك الليلة المباركة بالعبادة والذكر والدعاء، وقد بين النبي ﷺ أن من قام ليلة القدر بالعبادة والذكر والدعاء يغفر الله له ما تقدم من ذنبه فضلا منه وإحسانا، أخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا: ” من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”، والمراد بالذنب ما لم يكن متعلقا بحقوق الآدميين، لأن الإجماع قائم على أنها لا تسقط إلا برضاهم، بشرط أن يكون القائم مومنا بأن القيام حق وطاعة، ومحتسبا عمله لوجه الله لا للرياء والسمعة، وغفران ذنوب القائمين في هذه الليلة هو بعض بركتها، ويستحب أن يكثر المسلم من هذا الدعاء:” اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”، لما روى الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين والإمام أحمد عن عائشة قالت: قلت لرسول الله ﷺ أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ماذا أقول؟ قال قولي:” اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني”، وروى الخطيب عن أنس مرفوعا:” من صلى ليلة القدر العشاء والفجر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر”، وأخرج الطبراني والبيهقي مرفوعا :”من صلى العشاء في جماعة فقد أخذ من ليلة القدر بالنصيب الوافر “.
نرجو من الله العلي القدير أن نكون قد أوفينا حق هذا الشهر الفضيل ، و تقبل الله منا و ألحقنا رمضان القادم بإذنه ، و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته . .
يتبع ………..
الجزء الثالث