شذرات تاريخية عن مسجد القصبة بطنجة (1)
جريدة طنجة – عبداللطيف السملالي (. مسجد القصبة بطنجة .)
الجمعة 24 يوليوز 2015 – 11:33:40
و بعْدَ تَعثُرعَمليــات الإصــْلاح المَرة بعد الأخرى، وبُطء في إنْجــاز ما تعَهّـدت الــوزارة القِيـام بـه من تَرْميـم هـذهِ المَعْلمة الدّينية، و إحْيـاء رُسومهــا و الاعتِنــاء بمـَرافقها، انطلقت في الآونة الأخيرة جُهــود مُتواصِلة لإتْمــام أعمــال الإصلاح، وشمر العاملون عن ساعد الجد لإضفاء الحلة الجميلة على هذا المسجد العتيق، وتأنقوا في إبداع الأشكال والألوان المميزتين لمعمار المساجد المغربية الأصيلة، ثم توالت أعمال تجهيزه بما يلزم من بساط والثريات والأجهزة الصوتية وغيرها. وفي يوم الجمعة 17 شعبان 1436 ه/ 5 يونيو 2015 م أعيد فتح المسجد المذكور وش رُِع تَ أبوابه في وجه سكان حي القصبة الذين علت محياهم أمارات الرضى والحبور بما ناله مسجدهم من رعاية واهتمام كبيرين من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية .
إنّ مسجدَ القصبة العَتيق يُشكّـل أحَد المَعـالم المعْمـارية المُميّـزة في مدينة طنجة، وهو ينفرد عن باقي مآذن المدينة بصومعته المثمنة الأضلاع التي زخرفت بالأشكال الفنية آية في الجمال، وطعمت بالألوان الزاهية تسر الناظرين بجودة إبداعها ودقة تنسيقها. وهذا المسجد يعد بحق تحفة خالدة تظهر مدى العناية التي حظي بها منذ رفع قواعده منذ قرون خلت.
لقد ظهرَ هذا المسجد إلى حيـز الوجود في نهاية القرن 11 هـ/ 17 م، كجـــُزء من فضاء القصبة الذي كان يضم المنشآت المخزنية الكثيرة، في الفترة التي تم فيها دخول جموع المجاهدين الفاتحين إلى مدينة طنجة في شهر ربيع الأول من سنة 1095 ه/ فبراير 1682 م بقيادة المجاهد علي بن عبدالله الحمامي التمسماني )ت 1125 ه/ 1713 م(، وقد تحقق لهم دخول المدينة بعد أن أجلى الإنجليز كافة رعاياهم عن هذه المستعمرة، ونقلوا ما وسعهم حمله من مدخراتهم ورصيد وثائقهم، وكل ما هو ثمين وأمنوا طريق وصول ذلك إلى بلادهم.
ولما تَحقَّـقَ للمُستَعْمر الإنْجليزي عدمَ جدوى بَقــائهم في هذه المدينة، وذلك بسبب ما كان يرهق استقرارهم بهذه المستعمرة كاهل خزينة بريطانيا من أموال باهظة، لذلك سارع الانجليز إلى التسلل لواذا وركبوا البحر متجهين إلى موطنهم، بعد أعملوا الهدم والتدمير في المنشآت التي أقاموها في المدينة، وعبثوا بالتحصينات وخربوا المرافق العمومية ومنها قصر الحاكم الانجليزي وملحقاته بالقصبة.
ولما استقر الفـاتــحون بالمدينة أصدر السلطان المولى إسماعيل ) 1139 – 1082 ه( أوامره إلى قائده علي بن عبدالله الحمامي )ت 1125 ه/ 1713 م( بالاجتهاد في إعادة إعمار مدينة طنجة، والشروع في بناء ما هدمه الغزاة من أبراج وأسوار، وترميم المرافق المخربة وتعبيد الطرق، فنهض باشا المدينة مشمرا عن ساعد الجد، وحصن البلدة وأقام الأبراج وشيد المرافق الحكومية، ومن أهم الأعمال التي بادر إلى إنجازها بأمر من السلطان المذكور بناء مسجدين: الأول كان يقع وسط المدينة هو المسجد الأعظم.
والآخر شُيّـدَ في القصبة بجــوار إقــــامة حاكم المدينة. وإقامة هذين المسجدين في تلك الحقبة التاريخية يحمل دلالة كبيرة على عودة المدينة إلى كيانها الحضاري الأصيل، ويرمز إلى شدة ارتباط المدينة بوطنها الأم الذي اقتطعت منه تلك الدرة الثمينة )طنجة(، وظلت فترة ليست بالقصيرة تئن تحت وطأة الغزاة البرتغاليين ثم الانجليز الذين دامت سيطرتهما على المدينة من 869 هـ/ 1471 م إلى سنة 1095 هـ/ 1682 م.
لقد عرفَ مسجدُ القصبة عدّة إصـلاحــات وتحْسينــات خلال تـاريخهِ الطَويـــل، ولعَلَّ أهمها ما تمَّ تَحْتَ نَظر البــاشَـا أحمد بن على بن عبد الله الحمامي التمسماني ) 1156 هـ/ 1743 م( الذي أمر بتوسيعه ورفع منارته التي ماتزال إلى اليوم مـاثلة للعَيــان، وقد لحق جَزأها العلوي (العزري) شُقوق في السنوات القليلة السابقة، وخشي حصول مكروه من ذلك، واهتدى نظر أرباب البناء وخبراء المعمار القديم إلى ضرورة فصل هذا الجزء من الصومعة، ثم سعوا إلى إعادة البناء الكامل للجزء المتضرر، واجتهَدوا الاجتهـاد كله في إرْجـاعهِ إلى سالف عهده.
ولهذه الصومعة الجميلة في هندستها وشكلها وألوانها نظائر في بعض مساجد تطوان والعرائش ووزان، وهي جلها من المآثر الخالدة التي أمر بتشييدها الباشا أحمد الريفي المذكور آنفا في ربوع منطقة سلطته التي كانت تمتد على رقعة واسعة من مناطق الشمال .
ومن أهم المُــؤرخين المحُــدْثيِن الذين احتفوا بــالتّعْريــف بهذه المعلمة الدّينية والحَضــارية ونهَضوا بوصف فَضـــاءاتها وصفا دقيقا، العلامة المؤرخ محَمد بن العياشي سكيرج )ت 1385 ه/ 1965 م( الذي أجاد وأفاد في بسط معلومات تاريخية مفيدة عن هذا المسجد وذلك من خلال استعراض تاريخ إنشائه والإشادة ببانيه، وضبط مقاييس مرافقه، وعدد الطلبة المرتبين لقراءة الحزب الراتب اليومي، والحزب الشاذلي، ولأهمية ما سطره المؤرخ في شأن هذا المسجد العتيق، ولقيمة المعطيات الدقيقة التي تجمعت لديه من خلال الرجوع إلى المصادر التاريخية، واستنطاق الوثائق المختلفة، وأودع ذلك كله في كتابه القيم )رياض البهجة(، وإبرازاً لعطاءات هذا العالم المؤرخ، ودوره الرائد في التعريف بالمعالم الدينية بطنجة وتعداد الوظائف التي اضطلعت بها عبر العصور، أدرج ما دبجه يراع المؤرخ المذكور حول مسجد القصبة:
المسجد كـان جـُزْءًا من دار المخزن بالقصبة :
والمنقول سَماعًا أن بـانـي دار المخزن الكبرى الحــالية هو البـَاشا أبو العباس أحمد بن علي الريفي المتقدم الذكر وإنما أتم بنــاءها سنة 1153 هـ يشهد لذلك ما هو مرسوم من المكتوب بقبتها الكبرى ونص الشاهد منه: ….. والمسجد المذكــور جُزْء منْهَا، كَمــا بَنى دار المخزن بتطوان والعرائش، وبنى أيضا شبه قصبة مشتملة على مسجد وصومعة بـأحــواز سبتة أيّــام ربــاطه مع المجاهدين عليها على عهد المولى إسماعيل قدس الله ثراه، ولا زال أثر ذلك معروفا باسمه إلى الآن. قاله صاحب الاستقصاء.
وذلك مما يدل على عُلو هِمّة هذا القائد وضخامة أمره، وهو الذي ظاهر المولى المستضيء ابن المولى إسماعيل القائم على أخيه المولى عبد الله ومات في وقعة تعرف بوقعة الإسماعيلية، اسم محل قرب قصر كتامة على ما نذكره بمحله. والقول بأن هذا القائد إنما جدد بناء هذا المسجد يحتاج لإثبات. نعم جددّ أيام دولة المولى عبدالرحمان ابن هشام قدس الله روحه] 1204 1276 ه[ ، وذلك سنة….
بَلاطــات المسجد:
وهو الآن ذو بلاطات خمس منها ثلاث دائرة بصحنه، طوله مع هذا الصحن، ما عدا البلاط الداخلي منه، خمسة عشر خطوة. وعرضه كذلك أحد عشر خطوة.
طـول الصحن :
وطول الصحن وحده سبع خطوات في نحو الخمس عرضًا.
طول بلاطه الداخلي :
وطول بلاطه الداخلي مما يلي مِحرابه نحو العشر خطوات وعرضه نحو الأربع.
عدد سواري المسجد :
وبه أربعة وعشرون سارية ما بين مُنفرد ومتصل بحيطانهِ.
صومعته :
ولــهُ صومعة تقرب من صومعة الجـامع الجديد عُلــوًا وإتْقـانـًا، و بـابهـا بداخـلِ المسجد بــالغارب الشمالي مما يلي باب السقاية.
أبواب المسجد:
وله إلى المسجد بـاب كُبْرى ذات قَوْس عَريض نَحْوَ الخُطوتين، وبابان صغيران: إحداهما يدخل منها لمَحل من المسجد.
يشتمل على سِقاية ماء كانت جارية من عهد ليس ببعيد ولها منفذ للمسجد في غربيه قرب باب الصومعة.
والباب الثانية لمحل جلوس الخطيب قبل الخروج للناس يوم الجمعة في شرقيها، ومحرابه سوي على عين القبلة.
الهيئات المخــزنية كـــانت تشهد صلاة الجمعة بهذا المسجد
وبهذا المسجد يصلي المخــزن وحــاشيته وببَراح القصبة القريب من دار المخزن الكبرى تُقام الأبَهة العـــادية لصلاة الجمعة، ويأتي العسكر النّظـــامي للتسليم على حـاكــم المدينة بعد خُروجهِ من الصلاة، ولا زال ذلك على نوع ما، مما كان عليه سابقا وإلى الله عاقبة الأمور.
مُلازمة قراءة الحزب الراتب والحزب الشاذلي بالمسجد :
و بهَــذا المسجد الآن من الحـزابــة لقراءة الأحزاب القرآنية الكريمة ثمانية، ويقرأ به أيضا الحزب الشاذلي صباحا بعد الفراغ من قراءة الحزب القرآني. والمرتبون له أربعة والكل بأحباس خاصة مضافة الآن للأحباس الكبرى.
الفقيه العدل سيدي الغالي بن عجيبة )ت 1377 ه( هو أحد خطباء هذا المسجد :
وخطيبه وقته هو الشريف الأجل، الذاكر المنسوب الخير الأفضل، سلالة المجد وينبوع الحمد سلسلة الأمجاد الأخيار ومحط رحال التسيار، أبو المعالي سيدي الغالي بن المرحوم سيدي المهدي ابن عجيبة المتوفى بشهر ربيع الثاني من عام 1333 ه، الذي هو عام التاريخ.
وهو حَفيد قُطب زَمانهِ أبي العباس سيدي أحمد صاحب التآليف المشهورة والكرامات المأثورة كما سيأتي إن شاء الله تعالى .