تـأمُلات في مُفرَدات القرأن – العلم –
جريدة طنجة – عمر بن محمد قرباش ( .العلم. )
الإثنين 20 يوليوز 2015 – 16:13:16
ولجلال العلم وعظيم قدره فقد أضافه الله تعالى لنفسه فقال في سورة البقرة ” والله يعلم وأنتم لا تعلمون ” ، وإضافة العلم لله وردت في القرأن الكريم بصيغ مختلفة منها صيغة ” أعلم ” قال تعالى ” والله أعلم بما يكتبون ” ، وصيغة ” عليم ” قال تعالى ” والله عليم بالظالمين ” ، وصيغة ” علام ” وذلك في قوله تعالى ” إنك أنت علام الغيوب ” …
و كما أضـافَ الله تَعــالى العلم لنفسه أضـافهُ للإنْسان، قــال تَعــالى ” فأما الذين أمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ” ، وكان أول أمر إلهي له ليفيق من سبات الجهل ، ويغرق في بحار العلم فقال في أول سورة أنزلها على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخاطبه فيها ومعه أمته ” اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ” ، وقال مخاطبا أدم عليه السلام ” وعلم أدم الأسماء كلها ” ، وخاطب الإنسانية جمعاء فقال عز من قائل ” الرحمن ، علم القرأن ، خلق الإنسان ، علمه البيان ” وهذا إيحاء منه سبحانه للإنسان ليطرق أبواب العلم والمعرفة .
وإكراما منه لأولي العلم فقد قرنهم بنفسه وملائكته ، فقال ” شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ” ، فبدأ سبحانه بنفسه وثنى بملائكته وثلث بأهل العلم ، إكراما لهم وفضلا ، وشرفا ونبلا .
يقول ابن عاشر رحمه الله في مستهل منظومته :
الحمد لله الذي علمنا من العلوم ما به كلفنا
والمتأمل والمتمعن في مفردة ” العلم ” في القرأن الكريم ، يستنتج ـ كما يذكر صاحب المعجم المفهرس لألفاظ القرأن الكريم ـ أنها ذكرت نكرة ومعرفة زهاء ثمانين مرة ، تكررت في سورة البقرة وحدها أكثر من ستين مرة بألفاظ متقاربة وصيغ متشابهة ، أما مشتقاتها مثل : علم ” علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا ” ، ويعلم ” قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات و ما في الأرض و الله على كل شيء قدير ” ، ويعلمون ” فأما الذين أمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ” ، وعلم ” وعلم أدم الأسماء كلها ” ، وعليم ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ” ، وعلام ” قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ” ، وأعلم ” قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ” ، واعلموا ” واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم ” ، والعالمون ” وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون “، والعلماء ” إنما يخشى الله من عباده العلماء ” … فقد ذكرت مئات المرات ، فمجموع ما تكررت لفظة العلم ومشتقاتها في القرأن الكريم حوالي 765 مرة ، للدلالة على فضل العلم ومكانة العلماء .
والعلم في اللغة من علم يعلم علما، فهو عَـالم وجَمعه عُلَمــاء ، و” العين واللام والميم ” أصل صحيح واحد ، يدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره ، من ذلك العلامة ، والعلم نقيض الجهل ، وتعلمت الشيء ، إذا أخذت علمه ، ويطلق على المعرفة والشعور والإتقان واليقين ، يقال : علمت الشيء أعلمه علما عرفته ، ويقال : ما علمت بخبر قدومه أي : ما شعرت : ويقال علم الأمر وتعلمه : أتقنه .
و للعلماء عبارات مختلفة في تعريف العلم ، ومما قالوا في ذلك :
ـ أنه الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، وقيل : أنه حصول صورة الشيء في العقل ، وقيل : معرفة الشيء على ما هو علي .
وذهب ابن عبد البر في ” جامع بيان العلم وفضله ” عند تعريف العلم قوله ” هو ما استيقنته وتبينته وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه ، وعلى هذا من لم يستيقن الشيء ، وقال به تقليدا فلم يعلمه ” .
وقال صاحب ” الكليات ” : و المعنى الحقيقي للفظ ” العلم ” هو ” الإدراك ” ، ولهذا المعنى متعلق وهو ” المعلوم ” وله تابع في الحصول يكون وسيلة إليه في البقاء و هو ” الملكة ” ، فأطلق لفظ ” العلم ” على كل منها ، إما حقيقة عرفية ، أو اصطلاحية ، أو مجازا مشهورا ” ومن ثم ، يتبين للناظر أن العلم يطلق : على الإدراك ، وعلى المعلوم ، وعلى الملكة الحاصلة . ومن هنا اتخذت العلوم والفنون تسمياتها فقيل : علم القرأن ، علم الحديث ، علم النحو ، علم اللغة ، علم الفلك …. بمعنى أنها معلومات خاصة يحصلها صاحبها بإدراك خاص لباب من أبواب المعرفة ، فإذا تمكن من إدراك هذا ، وتربى وتدرب عليه حصلت له ملكة وسمي ” عالما ” في تخصص من التخصصات العلمية .
وخلاصة هذه التعريفات : أن العلم هو إدراك الشيء المعلوم على ما هو عليه إدراكا حقيقيًا مُطـابقـًا للـواقـع .
و النـاظر في القرأن الكريم قد يستغرب من تكرار كلمة العلم في كثير من أياته بدلالتها ومشتقاتها ، إلا أن هذا التكرار في السياق القرأني يفيد التفرع والتنوع ، والإجمال والتفصيل ، والإثبات والنفي ، الترجي والتعجيب والإنكار، والإيقاظ من الغفلة و الخمول ، والتحرر من الجهل والتقليد ، مثل قوله تعالى ” قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون ” ، ” ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ” ، ” أم تقولون على الله ما لا تعلمون ” ، ” إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ” ، ” قرأنا عربيا لقوم يعلمون ” ….
فعند التدقيق في معاني الآيات التي تدل على العلم ، نجد أنه لا تعارض و لا تضاد فيما بينها ، بل هي في الجملة تدعو إلى المفهوم الأساسي لمفردة ” العلم ” وهو معرفة الشيء على حقيقته .
إلاَ أنَ هُنـاك سمات مميزة في معنى العلم الذي بسط ـ الحق سبحانه ـ القول فيه ودعا إليه وحث في طلبه ، فقد اعتبر العلم الحق هو الذي اقترن بالإيمان ودل عليه فقال سبحانه ” يرفع الله الذين أمنوا والذين أوتوا العلم درجات ” ، وعد أكثر الناس تصديقا به أرسخهم علما فقال ” والراسخون في العلم يقولون أمنا به ” ، وأشدهم خشية لله أعلمهم به ” إنما يخشى الله من عباده العلماء ” يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه الفوائد : ” أفضل ما اكتسبته النفوس ، وحصلته القلوب ، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة ، وهو العلم والإيمان ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله ” وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ” .
فكما أن العلم طريق الإيمان ، فهو دليل على العمل ، بل هو شرط في صحة القول و العمل ، وعلاقتهما علاقة ترابط السبب بالنتيجة ، يقول الحق سبحانه : ” فاعلم أنه لا إله الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ” ، فبدأ بالعلم وثنى بالعمل ، فالعلم غاية والعمل نيتجة لازمة له ، فقد ورد في هذا المعنى قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه ، مثل الفتيلة تضيء على الناس وتحرق نفسها أو كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه ” ، وحكي عن أبي إسحاق الشيرازي قوله ” العلم الذي لا ينتفع به صاحبه ، أن يكون الرجل عالما ولا يكون عاملا ” .
و العلم الحق هو الذي يجمع بين الإيمان و العمل ، فبه يخلد صاحبه ، ويحيا به بعد موته ، فقد عده الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ضمن الثلاثة التي تلحق الإنسان بعد وفاته : ” إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث ” صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ” ، و قد أنشد أحد الشعراء فقال :
رب ميت صار بالعلم حــيا و مبقى قـد حاز جهلا وغـيا
فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا لا تعدوا الحياة في الجهل شيا
وقال البطلوسي :
أخـو العـلم حـي خالـد بعـد مـــــــوته وأوصاله تحت التراب رميم
و ذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى يظن من الأحياء و هو عديم
و بالجملة فهذه لمعة فيها غنية ، أوردنا فيها بعض المؤشرات والإحصائيات لمفردة العلم التي وردت في ثنايا القرأن الكريم بصيغها ومشتقاتها ودلالتها ، فهي تبرهن على أن الإسلام في شموليته ومنذ انبعاثه وهو يستنهض العقول من غفلتها وكبوتها ، ويستحثها للإبحار في عالم العلم والمعرفة ، ويدعوها للاستبصار في عالم ملكوت السماوات والأرض ، للدلالة على أن الدين الذي بعث به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرغب في اكتساب العلوم ، ويدعو إلى تحصيل المعارف في الأمور الدينية والدنيوية …