الإيثـار
جريدة طنجة – م.الحراق (. خُلُق الإيثار.)
الإثنين 20 يوليوز 2015 – 13:14:24
لم يتذكر في ذلك اليوم، إلا أنه يوم من أيام صيفها الحار، لم يدري في أي شهرولا في أي سنة كانت، ما بقي من ذكرياته سوى صورة أخيه أحمد يأخده، وهما في أحلى لباس العيد، ساحبا إياه من يده بتوصية من أبويه، لحداثة سنه،خوفا من أن يتوه بين أزقة والدروب، في اتجاه قصرالريسوني للتسجيل في المدرسة، كما أعلن “براح” المدينة.
كيف كانت فرحته وهو يدخل هذا القصرقصر الريسوني الذي سمع عنه لاحقا مجموعة من الأساطير والخرافات، وبأن الجان يسكنه بداخله، ولا يخرجون إلا ليلا.
دخل كما أسلفت مرفوع الرأس، يحتمي بأخيه الأكبر، لاخوف عليه اليوم من أن ينهره، حارس قصر الريسوني (السي العياشي القلوش) الذي كان محرما على الأطفل ولوجه، بل وحتى من محاول الإقتراب من بوابته، وامرأته (اللارادية) تنوب عنه مرات أثناء غيابه للتبضع، أو للصلاة، يشكلان ثنائي الشر بالنسبة للأطفال، حيث وافق شن طبق كما يقولون.
داخل حجرات القصر الثلاثة، وبهوها امتلأت عن آخرها، أو هكذا تخيل عقله الصغير،الذي لم يألف كثرة الازدحام وخاصة بهذا الحجم من البشر، صبيان كثر، هرج ومرج، ذكره بيوم من أيام الخميس، حين اصطحبه أبوه إلى دكانهم، الواقع بالسوق الأسبوعي لمدينته الصغيرة الجميلة، يحج إليه أهالي المدينة، وأهالي القرى المجاورة لبيع خضرهم وفواكههم ، وللتبضع، لكن هذه المرة سوق خالي من الدواب.
أمام هذا الجو لم يجد نفسه إلا وهو داخل غرفة طويلة عريضة بداخل القصر حيث يتواجد العديد من الأطفال جالسين، ورجال لم يميز منهم سوى الفقيه “المرنيسي” لبدانته وسمرة وجهه، المدرر بالمسيد المجاو لمسيد حومته ، ولكثرة عددها لم يتذكرأي (امسيد) كان يدرس أنذاك.
شعر في أول وهلة بدفء المكان، إلا أنه تساءل مع نفسه، لماذا لايوجد مع هؤلاء القوم الفقيه “المودن”، الذي كان مؤذنا ومدررا وإماما لجامع “الزكوري” الرجل الذي يجله ويفضل دائما أن يجلسه بجانبة، إما لحداثة سنه بين أقرانه، أو بتوصية من أبيه، أولأنه لم يبلغ بعد (امحضري) بل كان مستمعا، وهو الوحيد الذي يجلس إما بجانب الفقيه، أو قبالة رجليه اللذان لازال يتذكرهما كأنهما رجل عملاق، يفوق طولها حجم نصف جسمه، حيث كانت مدعاة لمحاولة معرفة سرهذا القدم، محاولا أن يتحسس أصبعا من أصابعه، فتغيب في كل محاولة سبابته الصغيرة بين ثنايا أصابع الرجل العملاق للفقيه المودن وهو يشد عليها مازحا معه بوضع القضيب الطويل – الذي كان يهش به كلما زاح امحضري عن جادة القراءة – بين أصبعي رجليه، حيث يهم الصغير بوضع أصبعه الصغيرة بينهما، ولصغرها كانت تغيب بين ثنايا الشحوم المكتنزة لأصبع رجل الفقيه، وكأن كماشة ألتقطته، أحداث لم تبارح ذهنه وهو حي.
وإلى مكان تنظيف الألواح أو (محي الألواح)، حيث يضطر، بل كان يعشق أن يأخد لوحة أخيه، يحاول أن يمحيها رغم أنها تكبره قامة، يخيل لمن يراه أنه يحمل نافذه إن لم أقل بابا، وهو ما كان يمنعه أخوه أحمد لثقلها أوخوفا من أن يبلل ثيابه ويلومه والديه على ذلك، ما كان ينفعه في أن يحصل على مايريده سوى البكاء والصراخ، فكان الفقيه هو الفيصل بينهما، وهو الذي لاحظ عشقه لمحي اللوحة بأن خصص له لوحة صغيركأنها قيست على مقاسه حجما ووزنا، كان يعمل على محيها اقتداءا بالمحضرة “الكبار”، وكانت رائحة حجر (الصلصال) الذي يدهن به اللوحة بعد محي كتابتها تعجبه، بل كان في غالب الأحيان يلوك الصلصال كما يلوك (العلكة)، وهو ما يثير حفيضة أخيه أحمد، فيدخل في صراع مع أخيه، غالبا ما كانت تنزع من فمه قبل بلع الصلصال، أما مادة ” السماق” الخاصة بالكتابة، فكان لا يستطيع أن يلعب بها نظرا لعفن رائحته.
صور لن تنمحي من ذاكرته، وهو داخل هذا الكم الهائل من الأطفال، يؤطرهم أساتذة المدارس مستقبلا وفقهاء المسايد، أفـاقه منادات الفقيه المرنيسي على أخيه بأن ينتصب أمام الصبورة للاختبار، مرمنه بنجاح وهو المحضري المتفوق دوما بين أقرانه في المسيد، ليأتي على دوره ، وبما أنه كان لازال مستمعا في المسيد، ولم يفك بعد طلاسيمالحروف الهجائية، لم يقوى على كتابة حرف واحد، فطلب منه الفقية المرنيسي أن ينتظم في الصف مع أقرانه، بينما أشار على أخيه بأن يأخد مكانا مع الأطفال المتفوقين في الجهة الأخرى، على أن يصطفوا متراسين في اتجاه حجرة أخرى، ولم يستصغ أخاه أحمد أن يبتعد عن أخيه الصغير، كيف سيستطيع أن يفارق أخاه، الذي أوصاه أبواه أن لا يفارقه ولو للحظة، فما كان منه إلا أن بدأ يصرخ بأعلى صوته ويبكي يريد أخاه بجانبة، وأمام إصرار أحمد بعدم الإلتحاق بأقرانه، اضطر المؤطرون أن يضا أحمد مع أخيه الصغير في نفس القسم، وبذلك فوت على أحمد ثلاث سنوات من الدراسة، هل يوجد إيثار أكبر من إيثار أحمد الذي فضل التضحية بثلاث مواسيم دراسية من أجل أن لا يفارق أخاه .