للأسر العريقة ولع بالورود والزهوربالمدن العتيقة
جريدة طنجة – محمد وطاش ( نبش في الذاكرة)
الجمعة 12 يونيو 2015 – 17:59:00
وللمغاربةُ شَغَفٌ كبير بــالأزْهــار و الـــورود التي تتعهدها البنات والأمهات بالسقي،ووضعها في أصص طينية أوبلاستيكة أوقصديرية في شُرفات المنازل أوفوق السطوح تحت أشعة الشمس ،كما يُشكّلنَ منها بـاقـــات يضعنها في مزهريات لإدخال البهجة إلى قلوب بيوتهن،ومنهن من يَخلطن الورود المجففة بالحناء لتَخْضيب شَعْرهن ،ومنهُن من يُزينن بها ضفائرهن ،أويكللن بأكالي يانعة منها رؤوسهن،في مناسبات معينة،كما هو شأن بنات قلعة مكونة ناحية ورززات،حيث يقام موسم الورود كل سنة، وفيه أيْضًا يتم تقطيرالورود وتجفيفها،وترويج مستحضراتها من عطورودهون وصابون ،وكذا استعراض موكب ملكة جمال موسم الورود البضة الغضة الخدود.
ويقام موسم للزهور بالمحمدية طاقت شهرته الحدود.وتقوم شريحة من الأسرالمتفتحة في الحواضر باقتناء باقات من الأزهار والورود من الأسواق المخصصة لها ،من أجل تقديمها للأصدقاء والأهل والأحباب في مناسبات معينة تزكية لفرحة اللقاء.كما دأب سكان بعض الأحياء العتيقة علىتزيين أزقتهم بنباتات وأزهار تسرالعابرين.
ولعل جانبا مهما من ولع المغاربة بالأزهاروالورود يعود إلى استقطاب حواضرمغربية، كالرباط وفاس وتطوان وشفشاون وغيرها، لعدد من الأسرالأندلسية ،إثرسقوط غرناطة آخر الإمارات الأندلسية سنة 1492م،حيث كانت تلك الأسرالنازحة من الضفة الأخرى ملمة بثقافة رعاية الزهور و الورود في بيوتاتها العتيقة وحدائقها الغناء،وقدبرعت أسرعريقة منها في عمليات تقطير أصناف مصنفة من النباتات والزهور .كما تفتقت قرائح الشعراءوالعشاق في وصف محاسن بنات حواء بالورود والزهور،اللواتي تغنى بعشقهن أهل المعاني في الأزجال و الأهازيج والموشحات منذ غابرالعصور.
و لاغرو أن الخلف قد تأثروا بتلك الحركة التأليفية لأسلافهم الأندلسيين، الذين ألفوا مؤلفات تحمل أسماء الأزهــار و الورود و الريــاض، و من أبـــرزها كتاب “الحدائق”، الذي ألفه ابن الفرج الجياني مـعـارضا كتـاب “الزهرة” لابن أبي داود الأصفهاني، و كتاب “البديع في وصف الربيع” لأبي الولـيد إسماعــيل بــن عامــر الحمــيـري،و “المقتطف من أزاهـــر الطــرف” لابن سعـيد، و “روضة الـنسرين في دولة بــني مرين” لابن الأحمــر، و روضة التعريف بالحــب الشــريف” و”ريحـانة الكـــتاب و نجعة المنتاب” لابن الخطيب، و” الزهرات المنثورة في نكت الأخـبار المأثورة” لابن سماك العاملي.
و لقد ذكرالحميري ما ورد عند شعراء الأندلس من أوصاف للأزهار بمختلف أنواعـــها: الآس، الياسمين، البهار، البنفـسج، الخـيري النمام، الخيري الأصــفر، النرجـس الأصفـر، الورد, ، السوسن، الخرم, ، النيلوفر،نور اللوز ،الأقحوان، الشقر، نور الباقلاء، نور الغالبة، نور الرمان والجلنار.
وجل هذه الأسماء لازالت متداولة بين الأسرالأندلسية التي استوطن أجدادها بلاد المغرب بعد التنكيل بهم وإجلائهم من مسقط رأسهم.وقد ذكرابن سهل في موشحه” جادك الغيث” عددا من الأزهار، مثل البان والورد والنرجس وغيرها.
وفي الرباط أقام الأندلسيون في حصن الوداية قرب نهر أبي رقراق، حديقة على نفس طراز الحدائق في قصور بني الأحمر في غرناطة، تحمل التصاميم والنقوش نفسها، بل وتتطابق معها في شكل توزيع الزهور والأشجار التي تزين جنبات الحديقة.
ومن العادات والتقاليد الموروثة من الضفة الأخرى عادة ” تقطير الزهور والورود ” ، والتي سنسلط عليها الأضواء من خلال هذه المقاربة التي استوقفتنا إثر نبشنا في منتدى التــراث والثـقـافة المغربيةمما جاء فيها:
ذهب المغاربة إلى نعث من هو محظوظ بقولة ” عندو الزهر” ، وهو مثال متداول بين عامة الناس ، وكذا تسمية بناتهم ب: زهور ، زهيرو ، الزهرة ، زهيرة . وكلها أسماء مشتقة من ” الزهور ” ولم يفت بعض الشعراء التعبير عن مشاعرهم نحو هذه العادة وخصوصا شعراء الملحون الذين أجادوا وأسهبوا في هذا الباب ، ومن باب التمثيل نسوق أبياتا من قصيدة ” السلوانية ” لشاعر الملحون المغربي ” بلقاسم البوراشدي :
والورد والزهر
فى المرشات
ومطارب العطر
والند فى الجمار
وقماري لاح
من مسوك عاطرة
ويتجلى من ذلك مدى اهتمام المغاربة بالزهور وبعادة التقطير؛ففي لغة تواصلهم اليومي ينطق المغاربة كلمة ماء الزهر هكذا: ” مازهر”.
ومن المدن المغربية التي اهتم أهلها بتقطير الزهور على سبيل المثال:
فاس ، مكناس ، مراكش ، سلا ، وغيرها.
ويعود هذا الاهتمام إلى كثرة أشجار ” الرنج ” بتلك الحواضر، و”الرنج “هو نوع من الفواكه يشبه البرتقال شكلا ولونا ، ومذاقه مر ، ويعطي أجود أنواع الزهر في فصل الربيع، كما يستعمل ثمره لتحميض الزيتون وإعطائه نكهة خاصة ، وتستعمل قشوره لأغراض مختلفة كطبخ الحلزون البري والتداوي.
تبدأ عملية القطف بالبساتين والرياض في الصباح الباكر، ويوضع ما قطف داخل ” شلالات ” -وهي أوعية مصنوعة من قصب- أو داخل ” الترابيات ” وهي أوعية مصنوعة من دوم- وما يسقط من الزهر يقع على قماش نظيف.
تتألف القطارة من ثلاثة أجزاء :
– ” البرمة ” (وهي آنية من نحاس مقعرة الشكل بداخلها ماء) .
– ” الكسكاس ” (وهي آنية مقعرة الشكل أيضا بأسفلها ثقوب صغيرة ، وتوضع بها الزهور أو الورود) .
– ” الرأس ” (وهي آنية وسطها مقبب الشكل ، يوجه الفراغ منه إلى أسفل وبه أنبوبان) .
وأجود القطارات ما صنع من نحاس.
حين تتوهج نار الموقد، يوضع فوقها الإناء المسمى ” البرمة “، وتكون هذه الأخيرة عادة مملوءة بالماء ،ويلقى وسط الماء بقطعة نقدية صغيرة من نحاس،وتلعب هذه القطعة وظيفة أساسية تكاد تكون ابتكارا راقيا في حد ذاته ، فعندما يتبخر الماء ويوشك على منتهاه ، تبدأ القطعة النقدية في التحرك بفعل الغليان داخل ” البرمة ” فتحدث صوتا من خلاله يعرف أن العملية قد انتهت،وعندها توضع ” البرمة ” فوق ” الكسكاس ” المملوء بالزهر أو الورد ، ثم يقفل عليه بإحكام وذلك بوضع قطعة من قماش مطلية بالماء والدقيق ، تلف حول الشق الفاصل بينهما حتى لا يتسرب البخار، وتسمى هذه القطعة ب” القفال “، وعندها يوضع ” الرأس ” على ” الكسكاس ” ويقفل عليه أيضا بنفس الطريقة السالفة الذكر . وفي الأخير يفرغ الماء البارد على ” الرأس ” حتى يمتلئ عن آخره، ويوصل أنبوبه الأسفل بقنينة كي تتسرب نحوها قطرات الزهر أو الورد. أما الأنبوب الثاني فيستعمل لتفريغ الماء الساخن، وعلى هذا المنوال يتم استبدال الماء والزهور أو الورود من أجل تحضير عملية ثانية وحتى ثالثة .
عملية التقطيرلها شروط خاصة وهي : يجب أن يكون مكان تقطير الزهر نظيفا جدا ومبخرا بالعود القماري،وعلى السيدة التي ستقوم بعملية التقطيرأن ترتدي هنداما تقليديا نظيفا معطرا ومهتمة بمظهرها وأناقتها ؛ كما يجب عليها أن تصلي على النبي وتذكر الله كثيرا، وقبل توجهها إلى غرفة التقطير تصلي ركعتين لله وتدعو للأسرة وللامة الإسلامية، كما يتطلب ذلك السرية حتى تنتهي من التقطير.. ومن الضروري جدا أن يحتفظ بماء الزهر في قارورات من زجاج مبخرة من الداخل بالعود والمسك ويحتفظ بها لمدة أربعين يوما مغطاة في مكان نظيف لا يصلها ضوء ولا أشعة شمس،وبعد ذلك يصبح ماء الزهر جاهزا.
لقد أولى بعض المؤرخين المغاربة لعملية تقطير الزهور والورود عناية خاصة واهتماما بالغا، ففي كتاب ” العز والصولة في معالم نظم الدولة”لعبدالرحمن بن زيدان،ورد ما يلي:
” …إذا كان زمن الربيع يؤتى بما يكون بالجنات والرياض من ذلك في كل صباح ، ويدفع لعبيد الدار الطواشين ، فيسلمونه للعريفة – وهي المسؤولة عن تسيير الخدم داخل القصور السلطانية – فتجمع عليه الأعيان من الإيماء في محل خاص معد لذلك ، فيقطرنه ، ويجعلنه في قوارير ، ثم تجعل على أفواه تلك القوارير أغطيتها ، ويحكم سدها ، ثم يلف فم القارورة بقطن ويغشى بجلد ويشد شدا محكما ، ويجعل في صناديق من عود أو خشب ، ويدخل للخزين الخاص ، وفي حالة مباشرة التقطير يمنع دخول أي أحد لمكان المباشرة إلا لمن يباشر عادة التقطير وابتدأ العمل معهن ، و تجعل القطارات خلف ستر مسدل من كتان أبيض …”.
ولإبرازأهمية وتقنيات هذه العملية الفريدة كان الخوف من ” العين ” يجعل الناس يعتقدون أنه إذا دخلت إحدى النساء إلى مكان التقطير فإن العملية لن تنجح،على اعتبار أن لهذه العملية قدسيتها الخاصة.فكان لزاما منع دخول أي غريب إلى مكان التقطير، خوفا من أن يكون نجسا أو على غير طهارة ” .
وعن وضع القطارات وراء ستار أبيض فإن السبب الأساسي في ذلك يرجع للحساسية المفرطة التي تتمتع بها الزهور والورود عند عملية التقطير، وحتى لا تتعرض لأية عملية تلوث من روائح أخرى صادرة من أجسام خارجية، كرائحة الطبخ مثلا “.
ومع الفجر مباشرة تشرع عملية التقطير،ويشترط أن يكون جميع من يحضر هذه العملية على طهارة، فتوقد النار،ويستحسن أن تكون بواسطة خشب أو فحم، ويرافق العملية من بدايتها إلى نهايتها ذكر اسم الله والتصلية على رسوله جهارا.
كانت عامة الناس تعتقد أنه إذا ما تعرضت القنينات التي يجمع فيها ماء “الزهر” أو ماء “الورد” لأشعة الشمس في اليوم السابع بعد التقطير يجعل الرائحة المنبعثة في درجة عالية من التركيز،إلا أن الصحيح هو أن أشعة الشمس تمتص الروائح ولو كانت داخل القنينات إذا كان زجاجها أبيض .
ولهذا السبب يضعون القنينات تحت أشعة الشمس وهي مغطاة بقطع من قماش أبيض ، وفي اعتقاد البعض أن القماش يحميها من ” العين ” ، بينما هو في الحقيقة يحميها من “عين الشمس” ! والعملية كلها تدخل في إطار عملية كيميائية على درجة عالية من الدقة يتم خلالها امتصاص الهواء الزائد من القنينات بفعل الحرارة حتى يظل “الزهر” أو”الورد” المقطرين محتفظين بجودتهما.
يستعمل المغاربة الزهر في الشاي والقهوة والحلويات التقليدية ك: ” كعب غزال ” و” المحنشة ” وغيرهما ، كما يمزجونه بالماء أو بالحليب في المناسبات الخاصة بالخطوبة والزواج ، ويمسحون به كذلك التمر، ويستعملونه في بعض أنواع السلاطات كالجزر المحكوك والبرتقال سواء مقطعا أو عصيرا؛ ويستعمل ماء الزهر لأغراض طبية ووقائية تقليدية، إضافة إلى استعماله كمعطر للبيوتات والمساجد والأضرحة.
لا تكاد تخلو مناسبة بالمغرب إلا وتتبوأ فيها الورود والزهور” ماء الزهر”مكانة متميزة حيث ترش على المدعوين،وتعطر أجواء المكان. وهي من شيم كرم الضيافة والترحاب لذا المغاربة. ويكاد يكون حضور هذه العادة ضروريا على الخصوص في المناسبات التي يتواجد فيها شيوخ المديح والسماع و” الطلبة ” ( وهم حفظة القرآن يرتلون الذكر الحكيم جماعة وفي انسجام تام ، كما يرددون أناشيد دينية كالبردة والهمزية ). وهذه العادة قديمة قدم تاريخ المغرب الإسلامي .
وفي ليلة القدر أو ليلة المولد النبوي، تحمل العائلات إلى المساجد قنينات و” مرشات “ماء الزهر إلى المساجد والأضرحة والزوايا لرش الجموع التي تستمتع بتلاوة القرءان أو سرد سيرة المولد النبوي الشريف . ويستعمل الورد ضمن أدوات ” الحنوط ” (أدوات تجهيز الميت) كما يرش بماء الزهر على كفن الميت، وكذا في اليوم الثالث عند زيارة النساء لقبر فقيد عزيز حيث يلقين ببتلات الورد عليه.
هكذا نكون قَدْ أخَذْنــا درسا إضافيا في ثقافة تقطير الزهر، وهي مَوْروث عَريــق لامَنــاص من الحِفـاظِ عليه وتشجيع القائمين عليه…