«حينما اكتشفت فعلا أنني كبرت»
جريدة طنجة – آية الحَسّاني ( . أقلام. )
الثلاثـاء 16يونيو 2015 – 10:02:57
وَعيت بمنطقي البــاطني أنني اشتقــت لطفلة كانت تُشْبهني إثْــرَ مصـادفــة واحدة لا ثــــاني لها.. وبعدها انهالَ علي الكون بهالة من المُصـادَفــات؛ فتعثرني كل يوم، وتوقعني كل لحظة في فخ الحقيقة رغم تهربي الدائم عنها.. إنها صدف غريبة، إقشعر بدني حين صادفتها!!.
في صِغــري كــان يمر من حَيّنــا بـائــع متجوِّل لمَــواد التنظيــف، له عربــة مُهْتَرئــة، يجرّها بكَتفيه.. يَرْتَــدي مــلابس مبصمة ببقــع «جـــافيل»، ويضع على رأسه قبعة صوفية في الشّتـــاء كما في الصيف، لا يزيحها أبدا .. ربما تيمنا ببركتها، أو تبركا بيمنها ! كان لي موعد معه كل يوم، في العاشرة صباحا بتوقيت الطفولة .. كان يحلو لي أن أتـأمـل مَلامح ضَخـامته .. كـان آنذاك جَبلاً، وكُنْتُ أنــا نملة تركــض هُنــا وهناك ! .. كنت أسْتحلي سماعَ صَوته الفَريد، المُمَيّـز، القــوي.. كان يعرض مُنْتجاتـه بلَحْن يجلب به الزُبَنــــاء، لحن يُذَغْذِغُ أذُنــــاي، ويشعرني بـالغَرابـــة والدّهشة !! بل كانت تعْلُو وَجْهأي مئأأات علامأأأأات الإستفهام وكَذا التّعجُب !!.. لكن! ذات يوم ؛ سمعت لحن إشْهـــاره.. لكن بقوة أضعف بكثير .. غدًا صوته متقطعـًا مُرتَجفــًا ! وأصبح جسده خائر القوى، أصبح هَشّ الضخامة، محطم البنية، شاحب البشرة، وأبيض الشَعر ! يجر عربته بصعوبة تَكــادُ تَقتلع روحه من جسده ! مع كل خطوة يَشْهَــق شهقة تكـــاد تكــــون شهقته الأخيرة – شهقة فنائه – كيف أصبح ذلك الجبل هضبة بل سهلا ! كيف للزمان أن يبعثره إلى هذا الحد ! كيف للسُنون أن تشوه تضاريس شَبابه وقوته ! كيف لها أن تبث في دهاليزه شيخا وهنا بهذه البساطة! «حينها اكتشفت فعلا أنني كبرت !».
نــــاداني أبتي ذات يوم قــــائلاً : إقـرئي لي لو سمحت ما جاء في فاتورة الماء أو الكهرباء – لا أتذكر ذلك جيّدًا – فقد خانني بصري، وعلت غيوم العجز عيناي ! .. حينها صدمت ! أبي الذي كان يلمح الطائر في أعالي السماء، ليلوح له من بعيد ويخبرني عن صنفه، أبي الذي كان يقحم الخيط في عين الإبرة مهما كان صغرها، عجز في لحظة عن قراءة أحرف وأرْقـــام، مجـرد أرْقـــام! «حينَهـــا اكتشفت فعْلاً أنَّنـي كبرت! » دخلت البيت ذات يوم، فوجدت أمي تسرح خَصلات شعرها ! فــانصدمت مجَدّدًا.. شعر أمي الغَجَــري، الأسود الحـــالك، النـّاعم الطويل .. الذي كـــان بــإمكانه أن يدفئ بردي إن التحفت به، عَلَه الشَيب ! وغَزاهُ الأبيض.. في لحظة فقط بــَدأت حرب عنيفة في رأس أمي، بين أسطول الأبيض، وجيش الأسود.. حرب حسم أمر المنتصر فيها قبل شن الحرب، إنه الشيب اللّعين الأبيض ومن غيره ! «حينها اكتشفت فعلا أنني كبرت!»، قبل سنوات، ذَهبت رفقة والدتي لحَفل عقيقة جــارتنــــا.. قبلت المولود الجديد، وتكرمت علي والدته بوضعه في حُضني.. وقبل أيّــــام، رأيت الرضيع نفسه يركض ويجري.. يلعب ويقفز.. يتكلم، يغني ويلاعب أصدقاءه.. بل يذهب إلى المدرسة أيضا ! «حينها اكتشفت فعلا أنني كبرت !».
أحقــًا كبرت ! أفعلا تغيرت ! هل أنـا بَلْهــاء أم حَمْقـــاء ؟.. أفلتت مقود عمري، وعشت برُوح طفلة في الصف الثاني ابتدائي.. تقمصت الدور، بل ولم أدر أنني غارقة في وحل الوهم، إلى أن صَفعني الجَبل، وبعدها بَصر أبي، شعر أمي، الطفل الرضيع .. وأشياء أخرى انهالت علي لتوقظني من سُبات غَفْلَتـــي.. نظرت إلى المرآة مَليـــًا ! وذهب هدي بصيرتي إلى عـالم المـــاضي بجماله، فـالحـــاضر بشع، والمستقبل أبشع وأفظع.. أتفَحّص مَلامحي، فـأتَخَيّـــل أو رُبَمــا أتـوهم، أو لعلني فعلا أرى نفسي طفلة بجَدائل شَقْراء، بأسنان أكلها الفأر قبل أيّـــــام، وبملابس زهرية.. أتخيل نفسي ممسكة بحلوى غزل البنات، ومستعصمة بكفي أبي.. تذهب أذناي للحن البائع المتجول، يرحل عقلي عن عقله، يغيب قلبي عن قلبه.. لأصاب بعدها ببعثرة حواس. أعترف فعلا أنني شخص مسكون بعفريت طفل وجد ملاذا آمنا في دواخلي، لم يقوى فقيه الزمن والسنوات على صرعه أو ردعه.. لم يغادرني رغم أنني «اكتشفت فعلا أنني كبرت !».