تأملات في مفردات القرأن : العـقـل
جريدة طنجة – عمر بن محمد قرباش ( .العقـل . )
الثلاثاء 30 يونيو 2015 – 14:44:46
ومما يدل على عناية الشريعة بحفظ العقل أنها حرمت كل ما من شأنه إفساده وإدخال الخلل عليه ، وجعلته من أحد الضروريات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها ، ليكون حجة على الإنسان وابتلاء له حتى يستطيع من خلاله أن يدرك ما حوله ويميز به مصلحته و مفسدته ، فيكون سببا في البعد عن المهالك ووسيلة للبحث عن المنافع .لأن الإسلام لا يخاطب العقل السادر الذي تغطيه غشاوة المفاسد ، بل العقل الذي يستوعب ، ويدقق ، ويستقرئ ، ويستنبط ..
فهو السبيل إلى التفكير والتفكر الذي أمرنا الله به في القرأن الكريم للوصول إلى الحق و الطريق المستقيم ، وخص به الإنسان وميزه عن باقي الخلائق ليكون في حالة تفكر دائم وتأمل مستمر في ملكوت الله وعظمته وإلا فتر وتبلد ، وإن الإسلام وهو يريد عقلا مثقفا يرفع من شأنه ويأمر باستخدامه في قضايا الحياة كلها ، وجعل الذين يحكمون عقولهم ويستنفدون طاقات تفكيرهم في كشف حقائق الحياة واكتناه أسرارها هم وحدهم أهلا لأن يوجه إليهم الخطاب ، وأما أولئك الذين أوقفوا حركة العقل وأوصدوا في وجهه باب المعرفة فليس لهم من شرف الإنسانية حظ ولا من كرامة البشر نصيب ، وإلى هذا المفهوم والغاية من العقل يشير الشيخ الغزالي بقوله ” وظيفة العقل أن يفكر ، كما أن وظيفة العين أن تبصر… الإنسان الذي يعيش بعقل معطل كإنسان يعيش بعين مغمضة ، ويد مشلولة ، وقدم مقيدة ، وذلك رد للأشياء عن مجراها الطبيعي ” .
أيرضى من له عقل ورأي تعاطي ما عليه به وبال ؟
ولو توغلنا بيسر في معنى العقل لغة نجد أنه سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك ـ أي يحبسه ، ولهذا يدل لفظ العقل عند أهل اللغة بمعنى : الحبس ، فيقال اعتقل الرجل ، إذا حبس ، وسميت الصدقة عقالا لأنها تعقل { أي تحبس } عن صاحبها الإثم ، فقد ورد هذا المعنى في قول أبي بكر الصديق ـ رضي الها عنه ” لو منعوني عقالا لقاتلتهم عليه ” ، وعقل البعير : إذا شد الساق إلى بقية الذراع بحبل لمنعه من الهروب ، ومن هذا الباب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لصاحب الناقة ” اعقلها وتوكل ” . ومنه العقل : الدية ، وقد سميت الدية عقلا لأن الإبل التي كانت تؤخذ في الديات كانت تعقل { أي تربط } بفناء دار المقتول .
ويشهد لهذا المعنى ما جاء في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ : ّأن امرأتين قتلت إحداهما الأخرى ، فجعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دية المقتولة على عاقلة القاتلة ” .
وعقل الشيء يعقله عقلا : فهمه ، ورجل عاقل وقوم عقلاء وعاقلون وجمعه عقول ، ورجل عقول إذا كان حسن الفهم وافر العقل ، وتعاقل الرجل أرى من نفسه العقل ، والعرب إنما سمت الفهم عقلا ، لأن ما فهمته فقد قيدته بعقلك وضبطته .
قال صاحب المحكم كما في ” تهذيب الأسماء واللغات ” العقل ضد الحمق ، والجمع عقول ، عقل يعقل عقالا ، وعقالا من قوم عقلاء . وقال الأنباري : رجل عاقل ، وهو الجامع لأمره ورأيه .
وورد في القاموس المحيط أن العقل هو : العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين أو مطلق الأمور أو القوة بها يكون التمييز بين القبح و الحسن .
وأما معنى العقل اصطلاحا فقد عرفه كثير من العلماء بتعريفات مختلفة لكونه اسم مشترك لمعان عدة ، فقد ورد في تعريفات الجرجاني بأن ” العقل جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقا ببدن الإنسان ، وقيل العقل نور في القلب يعرف الحق من الباطل ” ، أما الاصفهاني فقد ذهب في “مفرداته ” بأنه ” القوة المتهيئة لقبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة العقل ” ، وخلص القاضي عبد الجبار في تعريفه للعقل بقوله : ” العقل هو عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال ” . أما أبوحاتم السبتي المشهور بابن حبان فقسم العقل إلى نوعين : مطبوع ومسموع ، فالمطبوع كالأرض ، والمسموع كالبذر والماء ، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل محصول ، دون أن يرد عليه العقل المسموع ، فينبهه من رقدته ، ويطلقه من مكامنه ، يستخرج البذر والماء ما في قعور الأرض من كثرة الربع ” .
ولقد أحسن من قال واصفا العقل :
رأيت العقل نوعين فمطبوع ومسموع
ولا ينفع مسموع إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع
أما فلاسفة الاسلام وأهل السنة فقد اختلفوا في تعريف العقل بحسب اختلاف مذاهبهم ، فمن فلاسفة الاسلام الذين عرفوا العقل ابن رشد وابن سينا ، حيث عرفه الأول ” بأنه قوة تجريد من شأنه أن ينتزع الصور من الهيولي ويتصورها مفردة على كنهها لا ظاهرها ، وهناك صور عديدة للعقل منها العقل بالفعل ، والعقل بالقوة ، و العقل بالملكة ” ، أما ابن سينا فقد عرف العقل بأنه ” كالعقل الهيولاني ، يكون فيه شديد الاتصال بالعقل الفعال ، كأن كل شيء من نفسه ” ، أما أهل السنة فقد وردت عنهم تعريفات كثيرة للعقل ، فشيخ الإسلام ابن تيمية أطلق مفهوم العقل على أربعة معان : الغريزة و العلوم الضرورية والعمل بمقتضى العلم ” ، أما العلامة الشوكاني فقد أورد أن السلف كانوا يقولون : ” إن العقل عقلان : غريزي ومكتسب ، فالغريزي هو ما نسميه بالمقدرات العقلية من فهم وإدراك وفقه واتساق في الكلام ، وحسن تصرف العقل الغريزي هذا هو مناط التكليف ، فمن لا عقل له لا يكلف ، ومن فقد بعض مقدراته العقلية ، فإنما يكلف بحسب ما بقي له منها ” .
و بالتأمل والنظر في مفردة العقل في القرأن الكريم نلاحظ أن معظمها لم ترد بالصيغة المباشرة كمصدر ، إنما جاءت بالصيغ الفعلية دون الإسمية في الماضي والمضارع ، وبصيغة الإثبات والنفي ، وبصيغة الحض والتحريض والترجي ، كنحو ” عقلوه ” ” أفتطمعون أن يؤمنوا بكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ” ، و ” نعقل ” ” وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ” ، و ” تعقلون ” ” ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون ” ، و ” يعقلون ” ” والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ” و ” يعقلها ” ” وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ” وقد ذكرت لفظة العقل في القرأن الكريم ما يقارب خمسين مرة مجملها يدل على وجود العقل ، وأن به يعرف الإنسان الطريق السوي ، و به يميز بين الحق والباطل والحسن والقبح ، وبه ينظر في ملكوت السماوات والأرض وسائر مخلوقات الله .
ومن مرادفات العقل التي عبر القرأن الكريم عن ألفاظ معانيها التقاربية منها التعبير عن العقل بمصطلح القلب ، فيسمى العقل قلبا كما يسمى القلب عقلا ، يقول الحق سبحانه : ” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ” قلب يعقل به والقلب في هذا الموضع العقل ، فقد فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالعقل وذلك لأن العقل قوة من قوى القلب وخادم من خدامه . ويكنى العقل لبا لأنه لب كل شيء وخالصه ، وجمعه ألباب ولب الرجل : ماجعل في لبه من العقل ، وقد وكل الحق سبحانه فهم حقائق الكتاب إلى العقلاء أصحاب الألباب فيقول : ” أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب ” ، ومن معاني العقل النهى : جمع نهية ، وهو العقل وقد سمي بذلك لأنه ينهى صاحبه عن القبائح ” كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ” ، وقد يأتي العقل بمعنى الحكمة : أي الفهم وحجة العقل ، وهي صواب الفكر والقول التي من خلالها نصل إلى فهم مراد الله : ” يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ” ، ويرد لفظ العقل بمعنى الحجر ” هل في ذلك قسم لذي حجر ” أي لصاحب عقل .
فمن خلال هذه التأملات في المعنى القرأني للعقل ، يتبين كيف أن الإسلام أولى عناية فائقة للعقل واهتم به اهتماما كبيرا، وكيف أشاد القرأن في أيات عدة بالذين يستخدمون عقولهم ويستدلون بها على الحق ” وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ” ، كما ذم في غيرما أية بالذين عطلوا عقولهم وأوصدوا حركة التفكير، وكيف أن الحق سبحانه طمس على قلوبهم ، وسد أذانهم عن سماع الحق ، وخرس ألسنتهم عن النطق به :ّ ” إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ” وذكر سبحانه أحوال الكفار حين أدخلوا النار ” وقالوا لوكنا نسمع أونعقل ما كنا في أصحاب السعير ” . يقول الأستاذ العقاد ” والقرأن الكريم يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه ، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية ، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ و الدلالة ، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي تحث فيها مؤمن على تحكيم عقله ، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه ” .
وشواهد على ذكر العقل كثيرة لا يتسع المقام للإفاضة فيها فحسبنا هذه الإلماعة من كلام العلماء وشعر الشعراء وحكم الحكماء نختم بها موضوع العقل وقيمته ومكانته ، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ” أصل الرجل عقله ، وحسبه دينه ، ومروءته خلقه ” ، وقال الماوردي : ” واعلم أن بالعقل تعرف حقائق الأمور، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان ، فإذا تم في الإنسان سمي عاقلا ، وخرج به على حد الكمال ” ، وقيل لبعض الحكماء : بم يعرف عقل الرجل فقال : بقلة سقطه في الكلام ، وكثرة إصابته فيه ” ، وقيل في منثور الحكم : كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل ، فإنه إذا كثر غلا ” .
ولقد أحسن الذي قال :
وأفضل قسم الله للمرء عقله فليس من الخيرات شيء يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله فقد كملت أخلاقــه ومـأربـــــــه
يعيش الفتى في الناس بالعقل إنه وإن كان محظورا عليه مكاسبه
وأحسن أيضا حين قال :
ألم تر أن العقل زين لأهله وأن كمال العقل طول التجارب
وقال الإمام الشافعي في حكمه : ” العاقل من عقله عقله عن كل مذموم ” ، وحكى الماوردي عن بعض العلماء قولهم : ” ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة ، وركب البهائم من شهوة بلا عقل ، وركب ابن أدم من كليهما ، فمن غلب عقله على شهوته ، فهو خير من الملائكة ، ومن غلبت شهوته على عقله ، فهو شر من البهائم ” .
ونختم موضوعنا بهذه المناظرة بين العلم والعقل ، فقد أحسن أحد الشعراء وصفها بقوله :
علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعلم قال أنا أحرزت غايته والعقل قال أنا الرحمن به عرفــــــا
فأفصح العلم إفصاحا وقال له بأينا الله في قرأنه أتصفــــــــــــا
فـبان للعقل أن العلم سـيـده فقبل العقل رأس العلم وانصرفا