التّحليق إلى البيت العتيق (2)

“لقد أصدر الجلالة الملك محمد الخامس أمره الشريف بتعيين وفد ليمثل جلالته في موسم الحج تحت رئاسة السيد مبارك البكاي رئيس الحكومة السابق، والسيد المكي بادو المكلف بوزارة الأحباس، والسيد عبد السلام الفاسي رئيس مكتب الأبحاث والإشادات، والسيد الأمير محمد فال ابن عمير أمير الطرارزة، والدكتور الخطيب طبيب بالدار البيضاء، والسيد عبد الهادي التازي رئيس القسم الثقافي بوزارة التهذيب الوطني”.

الرسالة الملكية للحجاج:
وفي هذه الأثناء وجه العاهل رسالة مكية إلى الحجاج هذا نصها:
“الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه كتابنا هذا ـ أعلى الله قدره وأعز أمره ـ موجه إلى رعايانا الأوفياء المخلصين، المتوجهين إلى الديار المقدسة لحج بيت الله الحرام وزيارة قبر رسوله عليه الصلاة والسلام، نعظهم فيه ونذكرهم، فالنصيحة من العمد المتينة التي قام عليها الإسلام، والذي نوصيكم به تقوى الله في الإعلان والإسرار، والإخلاص له في آناء الليل وأطراف النهار، وأكثروا لله الحمد، وأجزلوا الشكر على ما أولاكم من النعم، وبرأ من النقم، فقد منحكم العزة.

والكرامة، وأعاد إلى وطنكم الحرية والسيادة، وأمن قلوبكم بعد الخوف، ومكن لكم دينكم بعد الحيف، وصدق لكم ما وعد به عبادة المتقين، واعملوا أنكم قادمون على أرض، أول موضع للناس من البيوت خص بالعبادة فيها الرحمن، أرض منها أشرقت الهداية المباركة لتوحيد الواحد الأحد دون شرك ولا مشاركة، وفيها جدث طاهر يضم رفات سيد المرسلين المبعوث رحمة للعالمين، فأقدمواعلى هذه الأرض الطيبة بنفوس زكية وضمائر نقية، واغتنموا فرص الدعاء في المواطن التي هي مظنة الاستجابة، واستعينوا على قبوله بخالص التوبة إلى ربكم والإنابة، فـ {إنما يتقبل الله من المتقين} [سورة المائدة آية ٢٧]. وستصل المناسبة السعيدة الأسباب بينكم وبين إخوان لكم مسلمين مؤمنين مثلكم محسنين، تربطهم وإياكم آصرة العقيدة، توحد وسائلكم وغاياتكم المصالح المشتركة العديدة، فعرفوهم بحالكم واسألوهم عن أحوالهم، واذكروا أنكم سفراء بلادكم وممثلو أمتكم في تلك الأرض وبين أولئك الإخوان، فإياكم وما يسيء سمعتها، وعليكم بحسن الشيم ومكارم الأخلاق، وابسطوا أيديكم بالإحسان إلى من عضهم الدهر بناب الخصاصة وجعلهم يعيشون عيشة ضنكة.

وعناية بكم وصيانة لأنفسكم وأمتعتكم، وسهرا على راحتكم، جعلنا على رأس ركبكم الميمون وفدا من خدامنا المخلصين، الأوفياء العاملين.

ونحن على يقين من أنهم لن يقصروا في قضاء مآربكم وتلبية مطالبكم وتحقيق رغائبكم، فاعملوا بإشاداتهم، واتبعوا نصائحكم، وامتثلوا لما يأمرون به لخيركم وينهون عنه.

كما أورنا سفارتنا الملكية بجدة أن تعمل لتيسير أسباب أدائكم لتلك الشعائر المقدسة، ولا تألو جهدا في تذليل ما يواجهكم من المصائب ويعترضكم، فطيبوا نفسا وقروا عينا، والله تعالى ـ يهبكم النجاح والتوفيق، ويهديكم إلى أقوم طريق، ويعيدكم إلى وطنكم سالمين، وفي ذيول المغفرة والرضوان رافلين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”
وحرر في عاشر ذي القعدة عام ١٣٧٨هـ الموافق ١٠ مايو ١٩٥٩م، وسجل بالتشريفات الملكية في التاريخ المذكور.

وفي صباح يوم ٢٦ ذي القعدة / ٤ يونيه الساعة الحادية عشرة دقائق أذن للوفد المغربي بالمثول بين يدي صاحب الجلالة، وقد حضر مدير التشريفات، ومساعده، ومدير الديوان الملكي، ورئيس قسم الصحافة، علاوة على رجال الأخبار السينمائية، وقد كان الملك كما عهدناه دائما جلالا وجمالا. قال جلالته: “نحن نغبطكم قبل كل شيء في زيارتكم للبقاع المقدسة التي كانت للإنسانية نعم النور، وكانت للروح نعم السند، ونحن بحول الله على نية زيارتها في أنسب فرصة، إنما لنا عليكن أن تذكرونا عند تلك الأماكن بصالح الدعاء، الدعاء ليس لشخصنا فقط، ولكن لهذا المغرب العزيز، ولصالح العالم الإسلامي والعربي…”

وبعد أن تفضل جلالته فأشاد بالخدمات الجلى التي عرفها لأعضاء الوفد، ذكر مهمتهم في الشرق لا تقتصر فقط على أداء واجب ديني صرف، ولكنها تتعداها إلى الدعاية للبلاد والتعريف بها…”ونحن ـ يقول صاحب الجلالة ـ لا ننتظر منكم إلا أن تعطوا صورة صادقة عن المغرب بما في ذلك واقعه، ونحن لا نرتجي أن يكون المتحدث عنا متأثرا بعاطفة ما، ولكن متأثرا فقط بمزايا الإنصاف، ما لنا وما علينا كذلك يجب أن يذكر، وليس من بأس على أمة فتية أن تجتاز بعض المراحل العصيبة، وفوق هذا فأنتم عين رحيمة بالحجاج المغاربة خذوا بيدهم ما أمكنكم ذلك”.

وهنا تصدى الرئيس البكاي، فشكر العاهل الكريم على توجيهاته السامية التي ما فتئ ينثر بها خلصاءه، وذكر أن جميع الأعضاء ممنونون له يهذه الحظوة، وأن كل ما يقوم به المغربي حيال العاهل الكريم لا يمكن أن يفي بما لجنابه من فضل على هذه البلاد التي عرفت طريق النور بسببه وعرفت السيادة في شخصه.

وبعد هذا توجه العاهل نحو الرئيس، وطلب إليه أن يبلغ عاهل المملكة العربية السعودية الملك سعود بن عبد العزيز آيات وده وإخلاصه وأن المغرب ما نسي ولن ينسى أبدا تلك الأيام القصيرة الزاهية التي قضاها العاهل السعودي بين ظهراني المغاربة، وأنه يتمنى تكرارها، وهو ـ أي المغرب ـ ما يزال رطب اللسان بالحفاوة البالغة التي لقيها سمو ولي العهد مولاي الخسن بالديار المقدسة عندما قام بعمرته المشكورة، ولا عجب أن تتبادل مثل هذه الزيارات، فالوطن العربي وطن للعرب أجمعين ولذلك فإن عليهم أن يكثروا من شأن هذه الزيارات.
وهنا ناوله العاهل ظرفا أخضر مطرزا وعليه نجمة خماسية، وقد احتوى نص (التوصية التقليدية) بالحجيج المغربي والوفد الرسمي بصفة خاصة. كما سلمه ظرفا أخضر ثانيا، وكان يحتوي على رسالة ملكية إلى جلالة الملك سعود بن عبد العزيز، وقد أكد على الوفد المغربي بمهمة التعريف بالمغرب الحديث قائلا: إن المغرب عنصر الوفاق والتصالح بين المسلمين، وليس هو لدولة على دولة. وفي ختام اللقاء، قال: يجب أن تظلوا على اتصال دائم بسعادة سفيرنا في جدة وأبلغوه سلامي، ثم كان الجواب الأخير للرئيس البكاي بأنه لا يجد العبارات الكافية التي تعبر عن شعوره وشعور الوفد، وأنه يعتبر نفسه كبقية الأعضاء خادما.

الوصايا والرسائل
ويكون لزاما على قاصد بيت الله أن يأخذ بجانب الاستعداد، وفي العادة أن يزورك إخوان ممن سبق لهم أن زاروا تلك البقاع.
وهنا يجب أن تصغي لمختلف (الوصايا) التي كانت وليدة تجارب، وكثيرا ما تلاحظ (التضارب) في حكايات الحجاج إلا أن هناك قدرا يتفقون عليه أو يكادون، ذلك أن عليك أن تأخذ احتياطاتك للمناخ القاسي الذي ينتظرك، فمنهم من ينصحك بأن تصحب معك الليمون والخل، وفي الناس من يوصيك بالمنظلة، وفيهم من يحذرك مغبة الظهور خارج البيت في أثناء النهار.

وجرت العادة من قديم أن يصحب الحاج معه مضمة ينتطق بها تشتمل على جيوب عدة في مختلف الأوضاع حتى يضع فيها كل ثروته احتياطا للطوارئ، وحتى يحتزم بها فوق إحرامه، لكن في الحجاج من عاد لايكترث بشأن هذه المضمة التي قد تكون مجلبة لشرور ومضايقات كذلك، وشىء آخر يدخل في بعض المصحوبات، ذلك هو النعل التقليدي (غير المخيط) والمحيط، لكن طائفة من الناس كذلك عادت لا تكترث بهذه النعال لا سيما وهي في غالب الأحيان عندما تلبسها وفي آخر لحظة فإن أن توافق قدمك، وإما أن تكون الأخرى، فتمسي عذابا لك وتصبح في عداد الذين يتعوقون ويتأخرون عن القافلة.

أما الإحرام (الإزار والرداء) فذلك ما لا يمكن أن يغادر حاج منزله دونه، إنما في الناس من ينصحك أن تختار أخف الأنواع فيه لا كثيفها.

دروس الماضي
وكان مما يدخل في دائرة الاستعدادات اغتنام الفرص لمراجعة المصادر التي تعنى بشؤون الحج ومناسكه، وهكذا استرجعت أياما كنت ـ وأعتز بذلك ـ أصارع فيها بعض الكتب سواء بجامعة القرويين، أو بالمعتقل، أو في أثناء تحضيري لبروفي معهد الدروس العليا باللغة الفرنسية. لقد قرأنا فصولا عن الحج بالقرويين ونحن ندرس مختصر الشيخ خليل، ولكنها ـ أي تلك الفصول وأعترف بذلك ـ كانت غامضة بالنسبة إلي؛ لأن الأسلوب بالفعل كان أسلوب تلغرافيا. ولما تطوعت في المعتقل بإعطاء بعض الدروس في الفقه وكان (المرشد المعين) لابن عاشر ـ وخاصة بالحج ـ هو مصدري فيها وجدت أنه نعم المرشد.

وقد اصطدمت في امتحان تحملته من أجل الحصول على “البروفي” بأسئلة عن الحج من بعض الأساتذة الفرنسيين بمعهد الدروس العليا، كانت الأسئلة بحق مدعاة للبحث عما كتب عن الحج باللسان الآخر، وهكذا درست مرة أخرى ما قاله الأستاذ موريس كود فروي ديمومبين في كتابه (القواعد الإسلامية) عندما تحدث عن الميزاب، ومساحة الكعبة وتخطيط مسالك الحاج، هذا علاوة على كتب جدت، وفيها ما زود بالصور، وبعض الأرقام، إذا يمكن أن أقول : إن لدي ما أعتمد عليه في هذه الرحلة إلى البيت العتيق سواء عند أسلافنا القدماء أو كتابنا المعاصرين.

ولم يقتصر تفقدي لمعلوماتي على ما يتصل بالمناسك والمسالك، ولكنه تجاوزه إلى هواية أخرى أهتم بها، تلك هي التوقيت، وهكذا أخذت جداول (اللوغاريتمات)، وتذكرت شيخنا الفقيه العلمي واستخرجت المقوم ليوم الزينة سابغ ذي الحجة ٢٣٧٨هـ لعرض مكة المكرمة الذي هو ٢٨ ٢١ طول ١٦ ٤٥..