حرب القلم
جريدة طنجة – آية الحسّاني ( أقلام ثقافية)
الثلاثاء 19 ماي 2015 – 17:24:47
فقد ارتكبت الإنسانية في حَـقّ نفسهـا جرائــم شنْعـاء ؛ الكـل يدمـر ، يقتـل ، يسفــك الدّمـاء بسبب أو بدونـه. عـادَ آدم إلى عصر صلابة الحجر، وقوة الصخر. فتجمدت القلوب، و قتلت الضمائر. فأصبح البقاء للأقوى، للأغنى، للأشهر، ولأشياء أخرى تتضمن كلاما لا يناسب الجمهور الناشئ كما يقال.. أصبح الإنســان يتدخل في تغيير قدر أخيه، فيحدد موعدا لفنائه، كما يختلق وقتا مناسبا لميلاده. فامتلك البشر أبشع الأسلحة، وتفنن في تجميل وسائل الدمار. بل تسابقت الدول لتحتل رتبا أولى في رصيد، و مخزون أسلحتها النووية، ومتفجراتها، ودباباتها وقنابلها.. أصبح العالم يعيش حربا معلنة، بل وإن صح القول أصبح يتعايش معها.. لم أكن اتصور أن البشر كائنات تتأقلم بهذه البساطة والسرعة. تعتاد الحـــرب وتتأقلـــم الخدوش والجروح والدمـاء..
لكن أعتــرف أن أقوى حرب يشنها الإنسان تجاه أخيه هي تلك الحروب الباردة التي تقتـــل ذهنك وتغتصب نفسيتك العذراء بسلاح مسالم.. تنقل إليك عدوى فرحها، ثــورتها، كـآبتهــا. تصيبك بــــورم سرطاني نفسي إن شاءت، وتشفيــــك من سقمك إن أرادت ذلك.
حرب فيهــــا الداء والدواء، فيها الكي وفيها الشفاء. إنها «حرب القلم»! الكاتب حاكم ديكتاتوري نازي، يحسم أمر شعبه (أبطاله)، ويجعل منهم سجناء قدر اختاره هو لهم.. يحيك لهم كنزة فاخرة من الألم، ويعلق معطف أمانيهم على مشجب الإنتظار.. فالروائي يمارس عنفه على كائناته الحبرية، فيقتل هذا وينحر ذاك، يتحرش بهذه ويغتصب تلك .. يفرض عليهم قـُوته و جَبروتـهُ، يحرقهم كمَا حرق هتلر اليهود، يبيدهم كمـا تبيـد الجيــوش الصهيونية أبـريـــاء فلسطين. يحييهم، يميتهـــم، يرفعهــم، يسقطهـــم، يفرحهم، يحزنهم، يعدهم، يتـوعدهم، يقبلهم، و يقلـب حيـاتهم ..
فـإنْ كانَ الطقس النّفْسي للروائي صَحْوًا، يُعـامــل شعبه الحبري بمنطق زوربـا ! تلك الشخصية اليـونــانية، التي تتسم بالمثالية وبفلسفة حَيــاة تختلف عن باقي الفلسفات. ﺍﻟﻤُﻤَﻴّـﺰ ﻓﻲ ﺯﻭﺭﺑــﺎ ﻫﻮ أﻧﻪ ﻳﺤﺐ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺑﻜﻞ ﺃﺷﻜــﺎﻟﻬﺎ، وﻻ ﻳﺬﻛﺮ ﺍﻟﺤﺰﻥ، ﺑﻞ ﻳﺬﻛﺮ ﺍﻟﻔﺮﺡ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﻓﻲ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﺣُﺰﻧﻪ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ، ﺃﻭ ﺳﻌﺎﺩﺗﻪ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪﺓ.. هو مُفرط في كُل شَيْء ! كــالروائي تَمـامـًا.. مَجْنُـــون، مكــابر، مـــازوشي. له طريقة خـــاصة في أن يصل بأحاسيسهِ إلى ضدّهـــا، وله أسلوب خـــاص في الشفاء من الأشياء الأكثر تعَلُقـًا بهــا.
الكتابة جريمــة ! نكتــب عن شخــص حينما نقرر إستئصاله من أحشائنا، وبتره من أوردتنا.. نقتله بجرة قلم ! ونجهض معه أحلامنا الجنين. الكتابة قدر وحتف ! هي عتبة للنعيم، ومفتاح للجحيم .. الكتابة بوابة لسعادة شاهقة، كمت أنها سور عظيم للكآبة يفوق سور الصين العظيم عظمة.. الـرواية سادية الطبع ، تتلذذ بآلام أجنتها، وتتمتع بصراخ دماء حبرها.. متعالية عن الواقع، غارقة في أوحاله.
الرواية منفصمة الشخصية، متشعبة الأبعــاد.. نميــل للروايات ذات النهايات الحزينة لأننا نحب أن ترقص أرواحنا رقصة النحيب والنواح.. الرواية وطن آخر، كوكب آخر، عالم آخر.. لا وجود فيه للكمات والكدمات الجسدية، يعمها التطرف النفسي والانحياز الفكري.
صحيح أن ما تخلفه من حطام نفسي يفوق مخلفات حرب، لكنها تظل الأقرب إلى النفوس السامية، فهي كتبت بالأساس بغرض مسبق ألا وهو «الألم الجميل».. ألم يوصلك لذروة الأمل. فما أحوجنا لحروب قلمية! ما أحوجنا لجرة قلم تكون مسؤولة عن تعافي صحة القراء الفكرية.. ما أحوجنــا لنزف حبر يغذي شعبا جائعا للعلم والأدب والثقافة.. حقـــا ما أحوجنا إلى الكثير..