ألق اللّغة العربية عند الدّكتورة نَجاة المريني
جريدة طنجة – هند بن محجوب
الثلاثاء 07 أبريل 2015 – 11:22:59
بمناسبة حفل تكريم الدكتورة نجاة المريبي الذي أقيم يوم الجمعة 27 مارس الماضي، بمدرج الشريف الإدريسي بجامعة محمد الخامس بالرباط، من طرف جمعية حماية اللغة العربية، أعدت الباحثة هند بن محجوب ورقة في الموضوع ضمنتها مشاعر التقدير والاحترام والعرفان بفضل المحتفى بها في تكوين الأجيال، وقد كانت هند ضمن “وحدة التحقيق” التي كانت تشرف عليها الدكتورة نجاة المريني بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط.
إن اللّغَةَ العربية لا تحتاج اليوم إلى من يدافع عنها وينافح ، أو يشكل لجنة لحمايتها ويناصر ، إن اللغة العربية اليوم في حاجة إلى فهم عميق لسبل توضيح أهميتها ودورها في تحصين ثقاقة أمة بكاملها ، إن الخطأ في التعامل مع ظاهرة درجنة اللغة ، واستبدالها باللغة العامية أو اللغات الأجنبية الأخرى في التعليم والإدارة والبحث العلمي والاقتصاد ، لايوحِّد اللحمة المغربية ويقوي شوكتها ، بل هو مدعاة إلى الشتات والضعف ، فما ينطقه المغربي في شمال المغرب لهجة ، لايفهمه الصحراوي الحساني جنوب المغرب جملة أحيانا وتفصيلا ، والعكس صحيح ، وهكذا دواليك في داخل المغرب ، وبقية جهاته العامرة صانها الله ، والأمر نفسه ينسحب على اللغة الأمازيغية ، فلو لم تصر لغة معيارية أكاديمية ، لما استطاع الريفي أن يفهم السوسي لاختلاف اللهجتين ، وبالتالي فاللغة المعيارية وحدة وقوة ، وضمان للتواصل الفعال .
كيف يمكن الحديث عن تحصين أو حماية أو دفاع عن لغة في غياب فهم دقيق لمقاصد وغايات الحفاظ على الهوية والكيان من الامحاء والتلاشي ، نقف اليوم أمام ظاهرة التنكر لما قدمته هذه اللغة من إمكانيات راقية في التعبير والتواصل والفكر ، ظاهرة تتبنى معاول الهدم في جذور ثقافتنا ، وعمق حضارتنا دون هوادة بحجج واهية ، فتجد تسلل الهزال والخواء إلى نفوس ضعاف ، تسعى إثر كل قبيح وجهه حسن، كما يقول المتنبي :
هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا مِمّا أضَرّ بأهْلِ العِشْقِ أنّهُــــــــــــــمُ
في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَـــــــــــنُ تفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُـــــــــــمْ
فأهل عشق اللغات التي خلفها الاستعمار هووا وما عرفوا ، أن تمظهرات الفكر الاستعماري كانت دائما وأبدا تسعى لزرع الفشل في القدرة على رُؤيـة الأشْيــاء خـارجَ غِطــاء زاويــة نَظرهِ . فـالتّحديث كـان يُرَادُ به منذ زمن أن يكون من الخارج ، من قيم لا تناسب هوية وثقافة الإنسان المغربي ، كما يرى المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري .
إننا لسنا في موقف دفاع عن اللغة العربية ولا حمايتها ، فهي أقوى وأجدر بفعل ذلك لاكتفائها بذاتها ، فلم يختر الله عز وجل لكتابه المحكم الخاتم لما سبق ، لغة غير العربية لكمالها وجمالها واكتمالها ، وشموليتها وقدراتها المتعددة اللامنتهية في التعبير عن الرؤى والمفاهيم والمشاعر والقيم ، إننا اليوم في حاجة إلى إعادة النظر في قوة اللغة العربية التي بها بنى المغرب حضارته من الأدارسة إلى العلويين ، نحن في حاجة ماسة الآن إلى تقديم اللغة الهوية الكيان الحاضر والماضي والمستقبل بالوجه المشرق الذي هي عليه ، وليس القاتم الذي يرجو البعض أن تكون عليه بسكب مظاهر العجز والتخلف عليها ، إن العجز الذي يعانيه من يرفض الاعتراف بقدرتها هو الذي يجعله غير قادر على رفع الغشاوة عن بصره لرؤية الحقائق جلية أمامه ، ولن يتأتى العرفان بقوة هذه اللغة ، إلا من خلال القائمين على نشرها والتداول بها وتدريسها ، وقد برع منهم الكثير لأنهم بإيمان عميق ، حملوا مشعل الصدق في التبليغ ، وبوعي صادق وحس رقيق ، وقاموا بنشر رسالة الحضارة الإنسانية الأولى ، وجاهدوا بسنوات عمرهم جهادا أكبر في إماطة اللثام عن ذخائر هذه اللغة وكنوزها ،عن جمالها وعمقها وكمالها .ومن بينهم المكرمة الكريمة محتدا وخلقا في هذه الأمسية في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية العتيدة من طرف جمعية حماية اللغة العربية ، أيقونة الأدب المغربي الدكتورة الفاضلة نجاة المريني.
إنني أقف اليوم بينكم وكلي فخر واعتزاز ، لأحيي وأساهم ضمن المساهمين في حفل تكريم الدكتورة نجاة المريني ، في هذا المحفل العلمي البهيج ، طالبة ضمن صفوف الأجيال التي كونتها وبرعت، وشذبتها وهذبت، بغيرة وأناة ، وصبر وحكمة دون مجاملة أو محاباة ، درة الباحثين المغاربة الأكادميين ، وقيدومة المحققين الجادين ، المساهمة ضمن المساهمين في الحفاظ على هذه اللغة تدريسا وتلقينا ،بحثا وإشرافا ، تأطيرا وتكوينا .
لقد تتلمذت على يديها سنوات الدرس والتحصيل ب”وحدة التحقيق” التي كانت تترأسها برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط العامرة ، وكنت أجد في محاضراتها ذلك الحرص على تقديم اللغة في ذلك السمت الحسن ، و المظهر الأليق ، شعورا بالإحساس بالمسؤولية العميقة اتجاه ما تقدمه من علوم ومعارف بلغة عربية نقية خالية من اللحن والشوائب ، وهنات الأخطاء اللغوية الشائعة.
حقا ، استطاعت الدكتورة نجاة المريني خلال مشوارها العلمي الأكاديمي الرصين الحافل بالإنجازات ، أن تجبر صدع الهنات التي تشيع وتنتشر في مجال تداول اللغة العربية في الجامعة المغربية ، إذ حرصت حرص المنافحين عن نقاء اللغة العربية وصفائها وإشراقها ، فدأبت على توسيع دائرة التواصل الفعال بها ، مستثمرة زادها المعرفي اللغوي الذي استمدته من قراءاتها لجهابذة المفكرين والنقاد والروائين العرب والمغاربة أجمعين ، ولم يكن الحرص الذي يسكنها ليمر مرور الكرام ، وهي تدرس وتلقي وتكوّن طلبتها الباحثين ، فتصحح وتوجه وتنير وتقوّم ،هكذا دأبت ، وهي كذلك اليوم عبر كتاباتها التي تمتح من لغة الرافعي تارة ، وطه حسين تارة اخرى، جامعة بين لغة القدماء والمحدثين لغة القرآن الكريم ، ولغة الشعراء الجاهليين والعباسيين ، لغة نزار قباني والأمير شوقي ، لغة المناضل علال الفاسي ، والعلامة عبد الله كنون.
لقد استطاعت الدكتورة نجاة المريني أن تجعل التعبير باللغة العربية متعة وراحة ورقيا في الانتصار للقيم والمبادئ والأفكار ، كما استطاعت أن تواجه العقبات والمصاعب والاعوجاجات التي صارت تتمظهر عليها اللغة العربية على لسان الإعلاميين ، وضعاف التكوين من الطلبة والباحثين ، فكان التتلمذ على يديها ، وبين رحاب حصصها متعة وإفادة ليس ينكرها سوى جاحد ، وليس يغبط بها سوى فاهم حاذق .
الدكتورة نجاة المريني في انتصارها للغة العربية انتصار لثقافة أمة مغربية كاملة تاريخا لغة وحضارة وثقافة ، إنها لاتسير عكس التيار الذي يجر خلفه كل الجُفاء ، بل هي التيار الذي يفرض التصحيح والفهم والتقويم ، تصحيح مظاهر الاختناق التي يعرفها التواصل باللغة العربية عبر فهم دور التواصل الناجع بها .
عندما انخرطت الدكتورة نجاة المريني في عالم التحقيق ، تحقيق التراث المغربي المخطوط، صار العبء أثقل ، والهم أكبر ، فلغة التراث لغة نقية صافية ، والمحقق بدون أسلحة اللغة ، لايقدم قدما و لا يؤخر في مجال التحقيق ، بل تراه في غياب علوم اللغة والتمكن منها ، يشوه ما أبدعه الأوائل ، ويمسخ ما جادت به القرائح . إن انخراطها في تكوين طلبة باحثين متمرسين في مجال التحقيق ،لم يكن صدفة ولا اعتباطا ، بقدر ما كان وعيا والتزاما للوفاء للغة باعتبارها وعاء للفكر والحضارة ، كما كان وعيا تلمسه في الكتابة والتدريس والنقاش والتحليل ، فلا يخلو محفل من بصمة تتركها ، فتعلق بك أناقتها في تشكيل اللغة وتطويعها للتعبير عن مكنوناتها وأحاسيسها ، عن تجاربها وأفكارها وقيمها ، والتزاما بتقديم هذا الوعي واستمراريته في مجال تخصصها عبر توريثه لأجيال الباحثين المحظوظين بفرصة التتلمذ على يديها . المغبوطين بشرب معين العلم الصافي من ينابيع محاضراتها ومناقشاتها العلمية التي ذاع صيتها ، وقل نظيرها .
فشكر وعرفان جميل ، وثناء حسن صادق رقيق برقة الدكتورة نجاة المريني وصدقها ، لكل ما أسدته لأجيال من الطلبة الباحثين بالجامعة المغربية إشرافا وتكوينا تأطيرا وتدريسا ، وكل الأمل أن تكون الكلمات قد عبرت عن فيض من غيض ، وفي النفس كَلِمٌ كثير لم يوفّ لضيق المقام . فعذرا سيدتي عن كل تجاوز أو نقص أو تقصير.