الدكتور عبد الهـادي التّـازي يُغـادر قِطار الحيـاة
جريدة طنجة – عزيز گنوني
الجمعة 24 ابريل 2015 – 12:46:52
ذلك هو الدكتور عبد الهادي التازي الذي ، برحيله، يوم ثاني أبريل الجاري، هوى صرح من صروح العلم والمعرفة في المغرب، وأفل نجم من نجومه التي أضاءت مسيرته منذ قديم العصور والأزمنة، ببحثه المتواصل في شتى علوم المعرفة الإنسانية، فقيها وعالما وأديبا ومربيا ومؤرخا ودبلوماسيا محنكا وإنسانا، ملأ الفضاء حوله إنتاجا ونبوغا وإشعاعا.
سيرة الراحل الكبير متميزة متفردة. إنها موسوعة متكاملة، حيث إنه جمع بين علوم الأقدمين وأصناف العلوم الأدبية الحديثة ، من تاريخ وجغرافيا وأدب وفقه ولغة، بوعي عميق بانتمائه إلى المغرب، باحثا في تاريخه القديم، بهدف إزاحة الغبار عن تحفه وذخائره، موثقا ومحققــا ومراجعـــا لفائـــدة الأجيال المغربية المتلاحقة.
فــقد تدرج في تكوينه من التعليم الأصيل إلى البحث العلمــي، بعــد تخرجه بشهـــادة العالميـــة من جامعة القرويين وحصوله على دبلوم الدراسات العليا في القانون، وعلى شهادة في اللغة الانجليزية من مدرسة اللغات ببغداد، وعلى دكتوراه دولة من جامعة الاسكندرية بأطروحة متميزة عن جامعة القرويين ، التي اعتلى فيها كرسي التدريس مباشرة بعد تخرجه من حلقات الدروس بها، ليلتحق بسلك رجالات الدولة الكبار في خدمة مغرب الاستقلال.
ولم تغنه مسؤولياتـه الرفيعــة كأستــاذ جامعي وكمديــر للمعهــد الجامعــي للبحث العلمي، وكسفير للمغرب في عدد من الدول كالعراق وإيران وليبيا والإمارات العربية المتحــدة، عن البحث والتنقيــب في ذخائر المغرب ونفائسه ورجالاته وكتبه ومخطوطاته النفيسة، حتى أنه جعل من بيت السفير بيتا للحكمة ومجمعا غير رسمي للعلماء والأدباء والنبغاء من العالمين العربي والإسلامي، فكان بصدق سفيرا لثقافة المغرب وحضارته وتراثه الأثيل.
وكان للراحل الكبير حضور قوي في مُختلف المحافل العربية والدولية التي احتل فيها مركز العضوية الفعلية، كالمجمع العلمي بالعراق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، والمعهد العربي الأرجنتيني، ومجمع اللغة العربية الأردني ومجمع اللغة العربية بدمشق، والأكاديمية الهاشمية بعمان والمجلس العلمي لهيئة المعجم التاريخي للغة العربية، والمؤتمر العالمي لأسماء الجغرافيا بنيويورك. كما أنه كان من بين أوائل العلماء الذين دعاهم الراحل الحسن الثاني للمشاركة في تأسيس أكاديمية المملكة المغربية. وكان للدكتور عبد الهادي التازي دور كبير في تأسيس اتحاد كتاب المغرب.
وقد أثـرى الدكتــور عبد الهادي التازي المكتبة المغربية والعربيــة بعشـــرات الكتــب والأبحاث التى توزعت بين التأليف والتحقيق والترجمة، حيث كان رحمه الله يتقن العربية والفرنسية والإنجليزية، خاصة، كما تنوعت موضوعات كتبه بين التاريخ والأدب والعلوم الشرعية والجغرافيا وعلوم السياسة، ومن أهم كتبه : تفسير سورة النور، وآداب لامية العرب، وأعراس فاس، وجولة في تاريخ المغرب الدبلوماسي، وتاريخ العلاقات المغربية الأمريكية. (حول العلاقات الأمريكية المغربية)، وجامع القرويين المسجد الجامعة بمدينة فاس، وليبيا من خلال رحلة الوزير الإسحاقي، وقصر البديع بمراكش من عجائـب الدنيـا، وفي ظـلال العقيدة، وصقلية في مذكرات السفير ابن عثمان، والتعليم في الدول العربية، ورسائل مخزنية، والعلاقات المغربية الإيرانية، والقنص بالصقر بين المشرق والمغرب، وأوقاف المغاربة في القدس، ودفاعا عن الوحدة الترابية، والرموز السرية في المراسلات المغربيـــة عبر التاريــخ، وإيران بين الأمس واليوم، والموجـــز في تاريخ العلاقات الدولية للمملكة المغربية، والتاريخ الدبلوماسي للمغرب، والكويت قبل ربع قرن، والإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية، والمرأة في تاريخ الغرب الإسلامي، وابن ماجد والبرتغال. و رحلتي الأولى إلى فرنسا والرحلة في تحفة النظار في غرائب الأمصار لابن بطوطة.
وله أيضا أعمال تحقيق منها: تـاريخ المن بـالإمامة لابن صاحب الصـلاة، والنصـوص الظاهــرة في إجـلاء اليَهـود الفـاجرة، لابن أبي الرجـال والفريد في تقييد الشريد لأبي القاسم الفجيجي.
وللراحل العزيز ترجمات منها حقائق عن الشمال الإفريقي/ الجنرال دولاتور وساعات من القرن الرابع عشر في فاس/ ديريكح. دي صولا برايس، و لو أبصرت ثلاثة أيام/ للكاتبة الأمريكية كيلير هيلين أدامس و الحماية الفرنسية، بدؤها، نهايتها/ مجموعة من الدبلوماسيين.
ولعل من الذخائر النفيسة التي تركها الراحل الكبير الدكتور عبد الهادي التازي موسوعة التاريخ الدبلوماسي للمغرب في عشرة أجزاء تبرز مكانة المغرب في علاقاته الدبلوماسية مع كبريات الدول عبر العالم، منذ أقدم العصور وإلى اليوم. ورغم ارتباطه بالكتاب منذ صغر سنه، فقد أهدى خزانته التي تضم فوق سبعة آلاف كتاب في شتى العلوم والفنون، إلى خزانة جامعة القرويين لينتفع بها الطلبة والباحثون والمهتمون بصفة عامة .
وفي حديث أجرته معه مجلة ‘فرح’”، حول أحب الألقاب إليه، أجاب الدكتور عبد الهادي التازي أنه يفضل بدون تردد صفة “الفقيه”، لأنه تخرج من جامعة القرويين من القسم الفقهي متخصص في الفقه المقارن : المذاهب الفقهية، وبخاصة المذهب المالكي، بما يحمله معه من مدونات ومصنفات ومختصرات، حيث إنه نشأ مع متن الشيخ خليل المعروف أمره في العالمين! ونشأ مع تحفة ابن عاصم الذي كان مرجع رجال الفقه والقضاء… «و لكن، سوق العمل التي وجدت نفسي معها هي سوق الكتابة، السوق الرائجة…» فعلى نحو ما حصل لابن خلدون الذي عاش مع الكتب الصفراء في البداية لكنه وجد نفسه بعد حين في فضاءات أخرى، حملته إلى السياسة واختطفته إلى الدبلوماسية، وبالتالي جعلت منه كاتبا “يتأقلم” مع محيطه، ويندمج مع شؤون البلاد، مع الشؤون الاجتماعية، وهكذا يقول الراحل العزيز، “أصبحت أقرأ مجلة (السلام) التطوانية، ومجلة “اللطائف المصورة”، ويضيف أنه اختار صفة الكاتب لأنها الصفة التي لازمته منذ طفولته إلى الآن، ولأن الكتابة من جهة أخرى كانت الوسيلة الوحيدة التي قادته إلى ارتياد الفضاءات التي كان يتطلع إليها… الكتابة كانت مشغلتي وما تزال .
ومن نصائحه لشباب اليوم أن يجعلوا رفيقهم المُحبّب إلى جانب الكتاب، “هواية أخرى أرى فيها كل المساعدات على التكوين والنضج… هذه الهواية هي الرحلة، السفر، التنقل، فمتى وجد الشاب وسيلة إلى التنقل فعل،… وقد عرفنا من أقوال الحكماء: إن للسفر خمس فوائد. وأنا أقول لهم، وقد بلغت رحلاتي بالطائرة إلى اليوم ألفا مائتين وإحدى وثمانين رحلة (1281)، إن التعرف على خارج بيتك يجعل منك إنسانا مستريحا، وأحب أن أحيلكم هنا على قولة ذكرها المسعودي في كتابه مروج الذهب: “ليس من لزم وطنه كمن وزع أيامه على قطع الأقطار والأمصار” !
وقد كان لي شرف التعرف، عن كَثَب، على الفَقيد الكبير يَـوْم التقيتهُ بــالقاعة الشَرفية لمَطـار لشبـونـة ، الـّذي وصلَ إليه رُفْقة الـوزيـر الأوّل الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي الّـذي جاءَ للبُرتــغال ليتسلم جائزة “شمال ـ جنوب”.
وقد قدمني إليه الدكتور المهدي المنجرة الذي كان أيضا برفقة الوزير الأول، وحين عرف أنني صحافي أدير المكتــب الدولي لوكالـة المغرب العربي للأنباء بالبرتغال والدول الناطقة بالبرتغالية، شد على يدي وأوصاني بالحرص على إبراز الشخصية المغربية في شتى المجالات وخاصة الثقافية والفكرية والإنسانية، ووعدني بمفاجأة. وكانت المفاجأة أن أهداني رحمه الله في نهايــة مقامـــه بالبرتغـــال، موســوعتــه الفريدة حول تاريخ الدبلوماسيـــة المغربيــة التي جاب جــل مكتبـات العالم من أجــل التــزود بالوثائق التاريخية الهامة التي توثـق للعديد من المـــــعــــــاهــــدات التـــي أبرمـــهــا المغــــرب مــــع مخــتــــلـــف دول العالـــم. ويقـول الناطـــق الرسمي باسم القصــر الملكـــي العامر، الأستاذ عبد الحق المرينــي إن هذه الوثائق تعتبر ذخيرة تاريخية هامــة يستفيد منها الأجيال الحاليــة واللاحقة. ومن إنجازاته الهامة أيضا في مجال التأليف، رحلة ابن بطوطة التي تعتبر معلمة في فن الرحلة بالمغرب التي لم يصدر مثلها إلى الآن، يقول الأستاذ المريني.
وحينما توليت الإشراف على جريدتــي “طنجــــة” فــي جانبــهــا العـــربــــي، و“الشــــمـــال”، كرئيس تحرير ومدير النشر، توالــــت الرسائل الشخصية التي وجههـــا إلي الدكتور عبد الهادي التازي، خاصة على إثر إعداد بحث حول الحالة المزرية التي يوجد عليها مزار ابن بطوطة بطنجة، وحين نشرت بحثا حول القصر الصغير الذي كان الراحل الكبير يعتقد أنه “لا يمكن للمؤرخ الذي يهتم بصلات المغرب مع أوروبا أن يكتب تاريخه دون ما أن يجد نفسه في قلب القصر الصغير” الذي كان “يتوفر على كل ما نتصور وجوده في القواعد البحرية الكبرى”. بهذه المدينة التي كان لها “دور إستراتيجي هام في مغرب الأمس منذ أن نزل فيها الفنيقيون ثم الرومان الذين تركوا فيها بصماتهم إلى أن عادت للمغاربة الذين جعلوا منها في العصر الإسلامي بوابتهم المفضلة للاتصال بالقارة الأوروبية”.
وبعد أن نَشرت تقْريـرًا حـوْل مَنــارة أشقــار البحرية، وجه إلي الفقيد العزيز رسالة يقول فيها :
تحية تقدير وإكبار، وبعد فلقد قرأت باهتمام كبير عمودك الأنيق المتعلق بمعلمة هامة من معالم طنجة الشامخة، ولاسيما أن هذه المعلمة تعاصر ظرفا دقيقا من ظروف المغرب الحديث.
لقد أنصفت هذه المعلمة بالصورة والنص وكانت بالنسبة لي تعزيزا لما سبق لي أن نشرته في مجلة أكاديمية المملكة المغربية العدد 19 سنة 2012.
وبعد أن اقترح علي إعادة نشر ما ورد في المجلة المذكورة، “مع إعادة نشر الصورة الملونة الجميلة المنشورة بالأسبوعية، كتب ما يلي : “أشد على يديك وأرجو أن يستمر نشاط مجلة “الشمال” الأغر في إحياء معالم المغرب التي كانت لها دلالة”.
و وفـاء، فـإنّنــا نَعِدُ قــراءنا الكرام بنشر مُداخَلة الراحل الدكتور عبد الهادي التــازي أمــام أكاديمية المملكة المغربية حول منارة أشقار في عدد قادم بحول الله.