أحكام الفقه الجنائي في المذهب المالكي (5)
جريدة طنجة – عمر بن محمد قرباش
الجمعة 13 مارس 2015 – 09:44:43
الحكمةُ من تَشْريـعِ الحُدود في الإسلام :
يقول ابن القيم رحمه الله مبينا الحكمة من تشريع الحدود ” من حكمته سبحانه و رحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان والأعراض والأموال كالقتل و الجراح و القذف و السرقة فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام و شرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع و الزجر مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع فلم يشرع في الكذب قطع اللسان و لا القتل ولا في الزنا الخصاء ولا في السرقة إعدام النفس وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه و صفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم و العدوان ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه و خالقه فلا يطمع في استلاب غير حقه ” .
ولعَلَّ من أهَم هذهِ الحِكَم ما يلي :
أولًا : التنكيل باﻟﻤﺠرم وردعه :
فـإذا شعرَ بألَـم العقوبة وما يترتب عليها من إهانة وفضيحة ، فإن ذلك يردعه عن العودة إلى مقارفة المعصية مرةأخرى ، ويحمله على المحافظة والاستقامة على طاعة الله ، والالتزام بشرعه ، وقد نص الله تعالى على هذه الحكمة في حد السرقة فقال سبحانه : ” والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم “.
ثانيًا : ردع الناس وزجرهم عن الوقوع في المعاصي :
فإن الناس إذا رأوا ما حل باﻟﻤﺠرم من النكال والإهانة والعذاب اعتبروا بحاله وأيقنوا أن هذا هو جزاؤهم إن هم فعلوا مثل ما فعل ، فيكون ذلك رادعًا لكل من تحثه نفسه في الوقوع بالمعصية ، ولهذا أمر الله تعالى بإعلان الحد وإقامته أمام الناس حتى يتحقق الردع ، فقال سبحانه في عقوبة الزنى : “وليشهد عذاﺑﻬما طائفة من المؤمنين “.
ثالثًا : تكفير ذنب اﻟﻤﺠرم وتطهيره من دنس جريمته :
فالحدود كما أنها تزجر المذنب ، فإنها تكفر خطيئته ، فتزكو نفسه ، ويلقى الله تعالى نقيًا من ذنبه ، قد طهر من خطيئته ، والله تعالى أكرم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة .
يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال لأصحابه { تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب منكم شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارته ، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عز وجل عليه فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له } قال: فبايعناه على ذلك .
وعن عمران بن حصين أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا ، فقالت : يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها ، فقال : أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني ففعل فأمر ﺑﻬا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثياﺑﻬا ثم أمر ﺑﻬا فرجمت ثم صلى عليها ، فقال له عمر : نصلي عليها يا رسول الله وقد زنت ؟ قال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله ؟ رواه مسلم .
رابعًا : تحقيق الأمن في اﻟﻤﺠتمع وحمايته :
إذ لو لم تشرع العقوبات لفسد نظام العالم ولاعتدى الناس بعضهم على بعض ، ولأكل القوي منهم الضعيف ، فشرع الله تلك العقوبات رحمة بالعباد ليحفظ للناس حقوقهم وليقيم العدل بينهم ، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
خامسًا : دفع الشرور والآثام والأسقام عن الأمة :
فإن المعاصي إذا فشت في الأمة انتشر فيها البلاء و الفساد ، وارتفعت عنها النعم والرخاء ، فما وقع بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ، وخير سبيل لحماية الأمة من الفساد هو إقامة الحدود .
قال تعالى : ” ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ” وهذا الفساد المذكور في الآية هو فساد حسي يشاهده الناس ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود ” لحد يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا ” قال ابن كثير رحمه الله : ” والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس أو أكثرهم أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات وإذا تركت المعاصي كان سببا في حصول البركات من السماء والأرض “.
فيتجلى من خلال بعض ما ذكر من الحكم أن من مقاصد المشرع من إقامة الحدود لتمنع لا لتقع ، وأنه حين وضع الحدود لم يكن من ورائها إشباع شهوة تعذيب الناس ، بل يطبقها في حدود ضيقة ، فيدرأ الحد بأدنى شبهة … ثم إن الناظر إلى تطبيق الحدود يعلم أن هذا التطبيق يمنع ارتكابه وتكرره مرة أخرى ، وأن إقامة الحدود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين لم يتعد حدود أصابع اليدين .
ثم إن هذه الحدود التي دعا إليها الاسلام لم تكن بدعا من الأمر ولا فقط في شريعتنا نحن المسلمين ، بل قد أمر الله تعالى بها في جميع الشرائع السماوية ، فأمر بإقامتها في التوراة المنزلة على موسى عليه السلام ، فعن نافع عن ابن عمر أنه قال : ” إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ” قالوا : نفضحهم ويجلدن ، قال عبد الله بن سلام : إن فيها لآية للرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على أية الرجم ، فقرأ ما بعدها و ما قبلها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا فيها أية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد فيها أية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، قال عبد الله بن عمر : فرأيته رجلا يجنأ على المرأة يقيها الحجارة ” .
ففي إقامة الحدود على المذنبين يكون في تطبيقها زجر للنفوس عن ارتكاب المعاصي و التعدي على حرمات الله سبحانه ، و بها تتحقق الطمأنينة في المجتمع و يشيع الأمن بين أفراده ، ويسود الاستقرار ، ويطيب العيش ، و بها تحفظ للناس حياتهم من اعتداء المعتدين ، وصدق قول الحق سبحانه ” ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ” .
يتبع